الحياة ٢٨ يناير ٢٠١٤
لم يعد الفرد حراً في عالم اليوم كما يتوقع البعض، فكل مؤسسة تجمع معلومات عنا إلى درجة أصبحت المساءلات التي نتعرض لها تشمل كل نواحي حياتنا. البنك يغتنم أي فرصة كي يعرف عنك ما لا تعرفه عن نفسك، ويحاسبك عن كل دولار يدخل حسابك، وعليك أن تثبت بالدليل أنك كسبته بطرق مشروعة، بل هو يحاسبك حتى على الأموال التي وفّرتها من عملك عبر السنين الماضية ويتعامل معها وكأنها مسروقة.

الشرطة وطواقم خطوط الطيران في المطارات تشكك في المسافر وتعتبره مصدر خطر حتى يثبت العكس. فلا يستطيع المسافر أن يأخذ معه إلى الطائرة معجون الأسنان أو الحلاقة أو قنينة عطر، وسيُجرد من كل هذه المقتنيات (الخطيرة) قبل رحلته، وتُلقى في صناديق القمامة حتى لو كلفته أموالاً طائلة.

أتذكر أنني كنت أتسوق من أحد المحال في واشنطن قبل سنوات قليلة، وعندما أكملت شراء هداياي، توجهت إلى مقهى للإنترنت كي أطلع على بريدي لذلك اليوم. دخلت المقهى الذي كنت أرتاده أثناء زيارتي فوجدته مزدحماً، وهناك واقفون كثيرون ينتظرون أدوارهم كي يستخدموا الإنترنت، فقررت المغادرة وتأجيل الاتصال بالإنترنت.

أومأتُ إلى تاكسي فوقف ليقُلَّني إلى وجهتي، ولكن فجأة أوقفني شرطي (من أصل أفريقي) وطلب أن يحقق معي فاستجبت على الفور، فلا خيار لي غير ذلك. أخذ الشرطي يحقق معي لنحو 20 دقيقة مُطّلعاً على وثائقي كلها كي يطمئن الى أن كل شيء عندي طبيعي. ومن بين أسئلته: هل دخلت مقهى الإنترنت هذا؟ فقلت له نعم. لماذا؟ قلت له كي أستخدم الانترنت. لكنك خرجت بسرعة ولم تستخدمه؟ نعم لأنه مزدحم وليس هناك مكان شاغر فيه فخرجت، فأين المشكلة؟

وبعد أن أكمل الشرطي تحقيقاته، اعتذر عن المساءلة وإضاعة وقتي ثم سألني: هل تعلم لماذا أوقفتك؟ قلت ليس قبل أن تخبرني. قال هناك سيدة أميركية أخبرتنا أن شخصاً ذا ملامح عربية دخل مقهى الإنترنت وخرج منه بسرعة. فتساءلت: وما المشكلة في ذلك؟ قال إن إدارة المقهى كانت تبحث في تلك الأثناء عن حقيبة مجهولة تُركت في المقهى فاتصلت بالشرطة للتعامل معها (اتضح لاحقاً أن صاحبها ذهب إلى الحمام!). ثم أردف قائلاً: إن سبب شك تلك السيدة بك هو ملامحك الشرق أوسطية! ثم قال: إنني أقدّر امتعاضك من هذا الامر، وأنا أيضاً غير مرتاح له لأنه يطاول كل أصحاب البشرة غير البيضاء وأنا منهم! قدرت للشرطي أخلاقه العالية وصراحته وانصرفت إلى التاكسي فوجدته قد استغل فرصة (الاستجواب) فشغّل عداده منذ أوقفته فكان يعد عليّ الأجرة طيلة الفترة التي كنت فيها واقفاً مع الشرطي.

قبل أيام، ذهبت للقاء أصدقاء في وسط لندن. دخلنا مقهى قرب مبنى «بي بي سي» لتناول القهوة وجلسنا خارجاً قرب الباب، لكننا بعد برهة شعرنا بالبرد فانتقلنا إلى الداخل. وفي زحمة اللقاء والسلام، تأخرتُ في نقل حقيبتي الصغيرة معي إلى طاولتنا الجديدة. وبعد بضع دقائق ذهبت لأجلبها فلم أجدها، وبعد الاستفسار عرفت أن إدارة المقهى أخبرت رجال الأمن بوجود «حقيبة مجهولة» فجاؤوا وأخذوها! احتججت بأن الحقيبة ليست مجهولة، وهي تعود الى زبون جالس في المقهى. فردّت الإدارة بأنني تركتها وغادرت الطاولة إلى أخرى! اتصلت بالأمن وبعد جهد جهيد استعدت حقيبتي، وبدلاً من الاستمتاع بلقاء الأصدقاء، أمضيت كثيراً من الوقت باحثاً عن حقيبتي التي غفِلتُ عنها لحظات.

أحد نزلاء الشارع الذي كنت أسكنه في لندن، وهو رجل تجاوز السبعين، يحمل معه دوماً كاميراً ويلتقط صوراً للسيارات (المشبوهة) التي تدخل الشارع أو تخالف لوائح الوقوف ويتصل بالشرطة ليقدم لهم هذه المعلومات (القيمة) مجاناً! يا له من رجل وطني! لا أعرف بالضبط المعايير التي يتبعها هذا الرجل في معرفة أي السيارات مشبوهة، ولكن في إمكاني أن أخمن ذلك!

لقد كان المبدأ السائد سابقاً في الغرب والذي جعل من البلاد الغربية جميلة ومريحة هو التعامل بإنسانية والبناء على حسن الظن وإهداء «منفعة الشك» للآخر. لكن الحذر والريبة والشك في الآخر، خصوصاً إذا كان من المهاجرين أو من أبنائهم، هي الصفات السائدة الآن في المجتمعات الغربية، ولا غرابة في ذلك إذا نظرنا إلى تصرفات البعض التي جلبت الأذى والوبال والسمعة السيئة على الجميع. فبعض الشرقيين الذين يعيشون في الغرب وينتفعون من الحريات السائدة فيه، يحملون أحقاد الدنيا عليه ويسعون لإلحاق الضرر بأهله ويعتقدون أن كل ما يحدث في بلداننا يعود إلى «مؤامرات» الغربيين علينا، من دون أن ينتبهوا إلى أنهم يجهلون الثقافة الغربية ولا يعرفون كيف تصنع السياسات والقرارات وكيف يفكر الإنسان الغربي، فهم لم يجهدوا أنفسهم في معرفة ما يدور حولهم، بل ظلوا أسرى تفكيرهم القديم.

قبل أيام، اعتقلت الشرطة البريطانية فتاتين بريطانيتين (من أصول عربية) بعمر 17 سنة كانتا تشرعان في السفر إلى سورية لـ «الجهاد» هناك. وقد صرح مدير وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن، ريتشارد ولتون، للصحافة بأن هناك تهديداً متنامياً للأمن القومي البريطاني بسبب ازدياد عدد البريطانيين (المسلمين) الذين اتخذوا مواقف متطرفة بسبب الصراع في سورية. وقال ولتون إن عدد الذين اعتقلوا لأسباب أمنية في الأسابيع الثلاثة الأولى لهذا العام بلغ 14 شخصاً، بينما بلغ عدد المعتقلين في العام الماضي 24 شخصاً. ويخشى ولتون أن يرتكب هؤلاء الشبان أعمالاً إرهابية في بريطانيا بعد عودتهم من سورية. ونقلت الصحف البريطانية أن امرأتين (أيضاً من أصول عربية) تحاكمان الآن في لندن بسبب تورطهما في استخدام أموال لأغراض لها علاقة بالإرهاب.

التطرف والعنف في البلدان العربية والإسلامية امتدا ليشملا العرب القاطنين في البلدان الغربية الذين لم ينفصلوا عن الثقافة السائدة في بلدانهم، على رغم أن في إمكانهم أن يكونوا دعاة اعتدال وجسور محبة ومنفعة متبادلة، لكن بعضهم لم يستفد من وجوده في الغرب ليتعلم، بل ظل يعيش أجواء الاحتقان والعداء التي دمرت المجتمعات الاصلية. شعوبنا بحاجة إلى وقفة حقيقية مع الذات كي ترى ماذا تفعل بنفسها وبالآخرين وكيف يمكنها الانسجام مع المجتمعات الأخرى كي تفيد وتستفيد وتريح وتستريح.

 

http://alhayat.com/OpinionsDetails/597124