ضرورة بقاء المقدس خارج إطار المنافسات السياسية

مجلة “الطبعة الجديدة” 2006
لندن-ابتهال البغدادي

لا يخفي السياسي العراقي حميد الكفائي تشاؤمه من حالة التخبط والانفلات الأمني الذي يشهده العراق بالرغم من إيمانه الكامل بعراق ديمقراطي تعددي يعيش فيه أبناء الشعب العراقي تحت مظلة القانون وفي دولة المؤسسات التي تضمن الحياة الكريمة للكل.

حميد الكفائي الذي عرفناه متحدثا لبقا ومعتدلا وسباقا للمساهمة في ردم الهوات بين السياسيين أعلن استقالته من منصب الأمين العام لحركة المجتمع الديمقراطي العراقية ليفسح المجال لقيادة جديدة تقود الحركة في المرحلة المقبلة لإيمانه بأطر الديمقراطية.

يؤمن بان من يخسر في العراق هو خسارة للكل، والمسألة تكمن في ايقاف تداعيات العنف الرهيب الذي اخذ يلف ويقسم العراق الى فرق وشعب وأحزاب وطوائف، هكذا يؤشر السياسي العراقي حميد مكامن الخطر في العراق. وبين هذا ومواضيع كثيرة، الطبعة الجديدة تفتح الملفات في هذا الحوار:

** كنت من أنشط السياسيين العراقيين، وكان لكم نشاط واسع في مجلس الحكم والحكومة الأولى، لكنك انسحبت بهدوء من العمل السياسي بعد الانتخابات الأخيرة واستقلت حتى من رئاسة حركة المجتمع الديمقراطي ثم من مسؤوليتك في الدولة العراقية. هل لنا أن نعرف الأسباب؟

- أنا اعتبر العمل السياسي واجبا وطنيا وأخلاقيا، لذلك تصديت للعمل المعارض للنظام السابق منذ نهاية السبعينيات، وقبل أن يدخل الكثير من السياسيين الحاليين العمل السياسي، ولم اختبئ تحت أسماء مستعارة بل عملت باسمي الحقيقي، وخاطرت بسلامتي وسلامة عائلتي في العراق لأنني اعتبرت العمل المعارض واجبا وطنيا وأخلاقيا والتخلي عنه تخاذلا وجريمة. وبنفس الطريقة ولنفس الأسباب، تصديت للعمل السياسي فور سقوط النظام وفي أحلك الظروف في مجلس الحكم والحكومة الأولى حتى شكلت الحكومة المؤقتة برئاسة الدكتور إياد علاوي وكنت أعمل بجد وحماس إلى جانب المسئولين العراقيين الآخرين، دون أن أصر على أن يكون لي عنوان معين فقد كنت أساهم في عمل الحكومة وأحضر الكثير من اللقاءات والاجتماعات الحكومية وأقدم مشورتي لزملائي في الحكومة وكل أخواني في العمل الوطني على حد سواء. كذلك شاركت في الانتخابات الأولى والثانية، وكان هدفي هو طرح القضايا المهمة التي تهم الإنسان العراقي وليس بالضرورة الحصول على مقعد في البرلمان. كان بإمكاني أن انضم إلى الكتل الكبيرة وأحصل على موقع متقدم، لكنني آثرت أن أكون مستقلا وأقول ما أراه صحيحا وأطرح القضايا الغائبة عن الساحة ولكن المهمة أيضا. قررت الانسحاب كي أفسح المجال لآخرين كي يمارسوا دورهم. الهدف من العمل السياسي هو خدمة الدولة والمجتمع وهو عمل طوعي، وأنا أشعر أن الوقت قد حان لأن اهتم بحياتي الخاصة وحياة عائلتي التي أشعر أنني أهملتها خلال السنوات الخمس الماضية، إذ كرست كل وقتي للعمل الوطني. هناك الآن آلاف المتصدين للعمل السياسي واعتقد أن بإمكاني أن أستريح قليلا.

** طرحت نفسك كليبرالي عراقي في الانتخابات الماضية، ألا تعتبر نفسك الآن جزءا من التيار الليبرالي؟

-  نعم أنا، كمواطن عراقي، ذو توجه ليبرالي ديمقراطي، لأنني أشعر أن العراق لا يمكن أن يخدم من خلال التعصب القومي أو الديني. لكنني في الوقت الحاضر لا أفضل أن أكون ضمن جهة سياسية معينة.

** هل هذا يعني أنك غير مقتنع بأطروحات الأحزاب السياسية القائمة حاليا كلها؟

- ابتداءا، لو كنت مقتنعا بأي أطروحة سياسية أخرى لما أسست حركة المجتمع الديمقراطي ودخلنا الانتخابات دون التحالف مع أي جهة سياسية أخرى. أنا كسياسي علماني غير مقتنع بأطروحات الأحزاب الدينية، لأنني أعتقد أن الدين أمر مقدس ويجب أن يبقى فوق القضايا السياسية وخارج أطار المنافسات السياسية التي يجب أن تتركز على كيفية خدمة الناس وتقديم أفضل البرامج الخدمية والصحية والتربوية وفرص العمل وغيرها من الأمور الحياتية الأخرى. الإيمان بالله هو أمر شخصي ويتفاوت في درجته والحماس له من شخص لآخر، ومعظم أبناء الشعب العراقي متدينون ويعتزون بانتمائهم الديني، لكن العمل السياسي يتعلق بالأمور الحياتية للناس من كل الأديان والمعتقدات والقوميات والتوجهات، وليس من العدل أن يحتمي بعض السياسيين بالقدسية الدينية كي يحصلوا على تأييد الناس ويمثلوهم في البرلمان دون أن يكون لديهم خبرة عملية في المجالات العامة. الدين أمر نحن نتفق عليه، والناس تريد حلولا لمشاكلها في هذه الدنيا والاختلاف بين الناس هو حول كيفية الوصول إلى هذه الحلول وليس على الأمور الدينية والأخلاقية التي لا خلاف على صحتها بين كل التيارات السياسية، رغم أن كلا منا له برنامجه الخاص للفوز بالجنة والحصول على الأجر من خلال العمل الخيري السري والعلني أو من خلال الاستقامة في العمل العام وتقديم المساعدة للناس، فهذا النبي الكريم يقول: “قضاء حاجة المسلم تعادل سبعين حجة من حججي” و “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”. علينا أن نركز على هذه القيم وتنميتها.

إن سألتني عن التيار الوطني الليبرالي فأعتقد أنه عائم حاليا ومشتت وليس له قيادة موحدة لأسباب كثيرة لذلك بقي هذا التيار ضعيفا، رغم اتساعه واحتمالات فرص نجاحه الكثيرة، واضطر بعض رموزه للانضواء تحت لواء الأحزاب الأخرى التي لا يؤمنون بمبادئها وتوجهاتها السياسية.

** من تقصد بهؤلاء الذين انضووا تحت لواء الأحزاب الدينية؟

- أقصد أن هناك سياسيين عراقيين كثيرين طرحوا أنفسهم في البداية كليبراليين ثم اضطروا في خضم هذه الموجة العاطفية أن ينضموا لأحزاب أو قوائم تستخدم الدين للوصول إلى السلطة، وكان هدفهم من ذلك هو البقاء في العملية السياسية بأي ثمن، وهناك أسماء كثيرة معروفة ولا نريد الدخول في التفاصيل لأن المهم ليس الأشخاص وإنما التوجه. هؤلاء علمانيون لكنهم لجئوا إلى الدين من أجل البقاء في العملية السياسية وهذا خلل كبير في الحقيقة عندهم، تماما كما لجأ بعض رجال الدين والإسلاميين إلى أحزاب وتوجهات علمانية من أجل أن يصلوا إلى البرلمان أو يقنعوا جهات معينة دولية وإقليمية بأنهم منفتحون عليها وأن خياراتهم السياسية ليست مغلقة.

** نقلت بعض وسائل الإعلام أنك تعرضت لمضايقات سياسية خلال الفترة الماضية فهل لك أن تذكر لنا هذه المضايقات؟

- المضايقات حصلت خلال فترة الانتخابات ومن أشخاص عملت معهم لأكثر من عشرين عاما، لكن المشكلة أنهم لم يعتادوا على سماع رأي مخالف لآرائهم. على أي حال فقد وضعت هذه الأمور ورائي ولا أريد أن أتحدث عنها. لدي كتاب (حينما ينطق الناطق) سيصدر مطلع العام المقبل وفيه الكثير من التفاصيل.

** لماذا وصلت الأمور في العراق إلى هذه الدرجة من التدهور في رأيك؟ هل هو قصور عند الساسة العراقيين أم بسبب أخطاء ارتكبها الأمريكيون؟

- اعتقد أن هناك أسبابا كثيرة أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، منها قصور في الجانب العراقي بالتأكيد، فلم يتمكن العراقيون من الاتفاق على كلمة سواء ولم تكن لديهم ثوابت وطنية يقفون عندها، بل قادهم الطموح السياسي والشخصي والفئوي إلى أن يتجاوزوا كل الحدود من أجل تحقيق الأهداف مهما كانت وقتية وبسيطة. هناك جهات سياسية ودينية عراقية وإقليمية سعت إلى تعميق الخلاف السياسي السني الشيعي بهدف تحقيق مكاسب وقتية. في الوقت نفسه اختلطت المشاعر الدينية والقومية والفئوية والمناطقية بالأهداف السياسية وأخذ سياسيون يستخدمون كل الأساليب من أجل إلحاق الهزيمة بخصومهم السياسيين. لذلك فإن المستقبل في رأيي هو للقوى الوطنية التي تتجاوز الحدود الطائفية والقومية، القوى المؤمنة حقا بالعراق الديمقراطي المتمدن وليس تلك القوى التي تريد أن تعيدنا إلى الوراء كي يتسلط علينا دكتاتوريون جدد. أما الأمريكيون فهم الآخرون لم تكن لديهم رؤية واضحة حول العراق، والكثير من التطورات التي حصلت لم يحسبون لها حسابا. اعتمدوا على نصائح غير دقيقة من عراقيين ليس لديهم خبرة في الوضع العراقي أو أن لهم دوافع سياسية وراء تقديم هذه النصائح. ارتكبوا الكثير من الأخطاء التي قادت إلى تراجع القبول الشعبي لهم وتقوية خصومهم المحليين والإقليميين. كان عليهم أن يقفوا مع القوى الديمقراطية بقوة لا أن يتعاملوا مع القوى المسلحة التي تنتهك القانون وحقوق الإنسان كل يوم. بهذه الممارسات شجعوا الكثيرين على التمرد والتجاوز على القانون وتأسيس الميلشيات واللجوء إلى السلاح، كما شجعوا الفساد أيضا في كل المجالات، ليس تعمدا بل إهمالا. كان عليهم أن يقفوا بقوة وحزم ضد الفساد من اليوم الأول لكنهم لم يفعلوا للأسف الشديد. وكان عليهم أن يقفوا مع القوى الديمقراطية الحقيقية حتى يبرهنوا أنهم فعلا جاءوا من أجل إقامة الديمقراطية في العراق، لكنهم وقفوا مع جهات غير ديمقراطية أساسا بينما لم يدعموا القوى الديمقراطية الحقيقية في العراق. في ظل كل هذا التناقض والإرباك، كيف يقتنع الناس أن الأمريكيين جاؤوا فعلا لتحقيق الديمقراطية ونصرة المظلومين في العراق؟

** ما هو الطريق في رأيك إلى تحسن الأوضاع في العراق؟

-أعتقد أن الأمريكيين لا يزالون يشكلون قوة مهمة سياسيا في العراق، رغم أنهم يبدون وكأنهم مستسلمون للأمر الواقع وليس لديهم خطة واضحة للتعامل مع الأحداث. بإمكانهم أن يقفوا مع القوى الديمقراطية الحقيقية وضد الممارسات غير الديمقراطية لبعض القوى السياسية، خصوصا تلك التي تمتلك المليشيات. هذه القوى سوف تقضي على مشروع الديمقراطية في العراق، والذي يقولون لنا إنهم جاءوا لتحقيقه، إن هم سمحوا بتجاوزاتها المتزايدة. هذا يعني أن عليهم أن يكونوا مستعدين للاصطدام بقوى تحمل السلاح لكنها ربما لن تغامر في رفعه ضدهم. فهل هم مستعدون لذلك؟ أنا غير متأكد. أما العراقيون فقد وصل انعدام الثقة بينهم إلى درجات خطيرة قد تهدد بتقسيم العراق.

** هل لديك ما تأسف عليه خلال عملك السابق؟

- لقد عملت بإخلاص وتفاني وتجرد في كل مراحل العمل السياسي والإعلامي، ولم أسع يوما لتحقيق مكسب شخصي وأحمد الله أنني لا أتمتع الآن حتى بما يجيزه القانون للمسئولين السابقين، من راتب تقاعدي وسكن وحماية، إذ حرمت من كل هذه الحقوق لأسباب سياسية. ولكن إن سألتني عن أخطاء ارتكبتها فبالتأكيد لدي أخطاء كأي إنسان آخر وقد أسئت تقدير بعض الأمور. الشيء الذي صدمني في العراق الجديد والذي لم أحسب له حساب هو عدم التزام معظم السياسيين العراقيين الجدد حتى بالحد الأدنى للمبادئ التي يعلنونها، وتهافتهم من أجل تحقيق أبسط المكاسب وعدم التردد في ارتكاب المخالفات القانونية والأخلاقية من أجل تعيين الأقارب والأتباع في مواقع هم ليسوا أهلا لها. كنت أتوقع أن يكون هناك مستوى معين من التعامل الأخلاقي السائد في كل دول العالم، حتى المتخلفة منها، لكنني لم أجد هذا المستوى في العراق الجديد، إلا ما رحم ربك، وهذه كارثة وطنية ستقود إلى كوارث مستقبلية إن استمرت.

** هل لديك مصاديق على ما تقول؟

- ألا ترى بعينك كيف يعين المسئولون والسفراء والمدراء العامون والدبلوماسيون في العراق اليوم؟ أينما أذهب التقي بأشقاء وأقارب المسئولين العراقيين، من وزراء ورؤساء وزارات ورؤساء دولة ونواب رؤساء ورؤساء أحزاب وكتل، وهم يحتلون مناصب عليا كمدراء عامين وسفراء ودبلوماسيين في السفارات العراقية في الخارج، وقد عينهم أقاربهم في هذه المناصب دون أن يكونوا أهلا لها. هل هذا عمل وطني؟؟ هل يدل هذا على حب العراق أم حب الأهل والأقارب والأصدقاء؟؟ هل بإمكاننا أن نثق بأشخاص اهتماماتهم الأساسية شخصية بحتة؟  إن ما يحصل اليوم من فساد إداري ومالي هو إدانة للطبقة السياسية العراقية برمتها، وإدانة لزعماء الكتل والأحزاب السياسية وإدانة لنواب البرلمان، فالساكتون عن هذه الأعمال هم كالمشاركين فيها. إنني في الحقيقة استغرب سكوت رجال الدين على هذه التجاوزات. الشعب العراقي يتوقع منهم إدانة صريحة لمرتكبيها مهما كانت مواقعهم السياسية، وليس فقط إدانتها مبدئيا.