تعرفت على السيد مهدي الحكيم في رمضان من عام 1985 بعد أن عدت إلى لندن من اسكتلندة، وكنت قبل هذا التأريخ أبحث عنه لما رسخ في ذهني وذاكرتي من صفاته الحميدة الكثيرة التي عرف بها.

 كنا نحن الشباب المعارضين للدكتاتورية الدموية في تلك الفترة نبحث عن رموز وطنية جامعة يتفق عليها العراقيون وقد وجدنا في السيد مهدي الحكيم رمزا عراقيا مميزا يمكن أن يتفق عليه العراقيون بكل توجهاتهم الفكرية والدينية والسياسية، وكان أوائل الذين عارضوا الدكتاوترية عام ١٩٦٩. لقد درس الحكيم العلوم الدينية في حوزة النجف العريقة على يدي كبار الأساتذة وبينهم والده السيد محسن الحكيم، ثم أبدع في شبابه وكهولته في جعل الدين يلائم الحياة العصرية ولا يتعارض معها. كما تحلى بصفات شخصية نادرة نالت إعجاب الناس جميعا…

لقد جمع بين الأصالة والحداثة والعلوم الحديثة والقديمة وتميز بفكر نير وجرأة قل نظيرها في شرح النصوص الدينية بشكل مقنع وجعلها تتلاءم مع متطلبات العصر. وأهم ما تميز به السيد مهدي وكان ذلك واضحا للجميع هو التواضع والانفتاح على الجميع.

 لم يكن مستغربا أن تجد في مجلسه المسيحي والصابئي وغير المتدين إلى جانب المتدين السني والشيعي والعربي والأجنبي فقد وجد الجميع في السيد مهدي ما كان يبحث عنه. وكان مجلسه يعج بالمثقفين والشعراء والأدباء والأساتذة من عراقيين وعرب وأجانب، وكنت قد تعرفت على كثيرين منهم في مجلسه وأتذكر منهم الأستاذ في جامعة كامبريج الدكتور جون كوبر الذي كان قد تحول إلى الإسلام. كما تعرفت في مركز أهل البيت الذي أسسه السيد مهدي الحكيم في مطلع الثمانينيات إلى العديد من الغربيين الذين تحولوا إلى الإسلام وقد وجدوا في السيد مهدي رعاية واحتضانا لهم وتعاملا راقيا، وتفسيرات عصرية للإسلام توفِّق بين موروثاتهم الثقافية ومتبنياتهم الدينية الجديدة.

كنت حريصا على حضور مجلس السيد مهدي كل يوم أحد بما في ذلك يوم الأحد السابع عشر من كانون الثاني 1988 وهو يوم استشهاده. ذهبت إلى هناك ولم أجد سوى قلة من الأشخاص وكان بينهم السيد عبد الزهرة زوين الذي قال لي إن السيد مسافر وسيكون في المركز الأسبوع المقبل. وبينما كنت أقود سيارتي عائدا إلى المنزل ذلك المساء، سمعت في إذاعة البي بي سي العالمية خبر استشهاده. لقد شكل استشهاده صدمة كبرى ليس فقط لمحبي السيد مهدي وهم كثر، بل للمعارضة العراقية وكل المهتمين بالشأن العراقي وحقوق الإنسان في العالم.

 من العبارات التي سمعتها من السيد مهدي الحكيم ورسخت في ذاكرتي هي قوله إن صدام قد سهَّل مهمتنا في تعريته أمام الرأي العام العالمي لغبائه وكثرة أخطائه وجرائمه، وكان السيد مهدي يقارنه بيزيد بن معاوية الذي قال إنه لم يترك لأحد مجالا لأن يشك في سوئه وضلاله، على خلاف أبيه (معاوية) الذي كان يتعامل بذكاء مع الأحداث ما جعل له بعض المريدين.

 لم يكن السيد مهدي يتردد في الذهاب إلى أي مكان واللقاء بأي شخص لشرح القضية العراقية ولم يهتم لسلامته الشخصية كثيرا وكنا نحن محبيه نخشى عليه من الاغتيال وكنا دائما ننصحه بأخذ الحيطة والحذر في تحركاته لكنه اعتاد على الإقدام والاستعداد للتضحية وكان يقول إن صدام يريدنا أن نكون حذرين قلقين خائفين منه كي نقلص من نشاطاتنا خوفا من إرهابه لكن ذلك لن يحصل ولن نستسلم لهذا المجرم فأرواحنا ليست بأغلى ممن استشهدوا قبلنا.

 كان يحمل هم العراقيين جميعا أينما ذهب ومن هنا جاء تصميم النظام على تغييبه جسديا متوهما أنه بهذه الجريمة الشنعاء سيتمكن من البقاء في السلطة ويفلت إلى الأبد من العقاب على ما ارتكبه من جرائم. لكن اغتيال السيد مهدي في عاصمة عربية نائية قد قدم دليلا قاطعا للعالم العربي، الذي كان وقتها يغط في نوم عميق حيال جرائم صدام بحق الشعب العراقي، بأن نظام صدام هو نظام إرهابي لا يتورع عن ارتكاب أي جريمة بحق من يختلف معه في الرأي وإن كان هذا عالما مسالما يسعى لخير البشرية كما كان السيد مهدي يفعل.

 بإمكاني أن أتحدث كثيرا عن مآثر السيد مهدي الحكيم وأفكاره النيرة وإنسانيته الفريدة وحبه لبني البشر جميعا ولكن اكتفي بهذا القدر وأشكر القائمين على هذا الحفل على منحي هذه الفرصة لاستعرض بعضا مما حوته الذاكرة عن هذا الرجل العظيم الذي احتل مكانا بارزا في قلوبنا وعقولنا. والسلام عليكم.

حميد الكفائي

17 كانون الثاني 2013…
كلمة اعدت للاحتفال الذي اقيم بمناسبة مرور ربع قرن على اغتيال السيد مهدي الحكيم