ابتداء، مصر لا تهم المصريين فقط بل جميع بني البشر الذين يهمهم كيف نشأت حضارة الإنسان. ففي مصر نشأت أولى الحضارات البشرية وفيها اجتُرحت المعجزات العلمية التي ما زالت طلاسم حتى هذه اللحظة من التقدم العلمي.

ومصر أول دولة عربية حصلت فيها النهضة التقنية الحديثة على أيدي محمد علي باشا مطلع القرن التاسع عشر، لتتمدد غربا إلى تونس بعد أربعة عقود وتتطور هناك على أيدي خير الدين التونسي، وما تزال آثارها راسخة في كلا البلدين. فمن مصر انطلق التحديث ليشمل كل مناحي الحياة العربية، مع حفظ الدور الرائد للبنان في مجال الثقافة.

 

أما نحن العرب، فمصر تعني لنا أكثر من كونها بلدا عربيا كبيرا يقع في قلب العالم العربي. وأكثر من أنها كانت وما زالت قبلة لكل الباحثين والشعراء والأدباء والمثقفين والفنانين والمفكرين والسياح والمؤرخين. مصر أكبر من كونها تضم أعرق كنيسة شرقية في العالم العربي وأقدم وأفضل جامع وجامعة دينية وأدبية وعلمية إسلامية ألا وهو الأزهر الشريف… وهي أهم من كونها بلدا يضم ضريحا لرأس الحسين ومقاما للسيد البدوي ومساجد عمرو بن العاص والسيدة زينب والسيدة نفيسة… 

وطوال التأريخ، يأتي الوافدون إلى مصر فيتحولون إلى عظماء بفضلها فيحملونها على أكتافهم وفي قلوبهم. باني مصر الحديثة محمد علي باشا لم يكن مصريا، بل ألباني، لكنه أحب مصر وعمل من أجلها وخدمها أي خدمة فأصبحت مصر أقوى بلدان الشرق في عهده… المفكر جمال الدين الأفغاني لم يكن مصريا، بل أفغاني، أو إيراني كما يدعي الإيرانيون، لكنه انطلق في دعوته المناهضة للإستعمار من مصر، ولولاها لما بقي له من ذكر أو أثر. رشيد رضا لم يكن مصريا، بل سوري، لكن اسمه وفكره اقترنا بمصر، ففيها درس ومنها انطلق.

مشاهير الشعراء، من التونسي أبو القاسم الشابي إلى اللبناني إيليا أبو ماضي إلى العراقي عبد المحسن الكاظمي، لم يبلغوا المجد إلا بعد أن وطأوا أرض مصر. العراقية نازك الملائكة، أول شاعرة تقود العرب إلى الحداثة، وتخرجهم من الشعر التقليدي الذي ألفوه لآلاف السنين، اختارت مصر موطنا فعاشت وماتت ودفنت فيها. فريد الأطرش ووردة الجزائرية وأسمهان وكاظم الساهر ونصير شمة ومئات الفنانين العرب غيرهم ما كانوا ليبدعوا ويبلغوا ما بلغوه من شهرة لولا احتضان مصر لهم.

مشاهير المفكرين والمثقفين ورجال الدين درسوا في مصر وانطلقوا منها إلى العالم. نظرية المصري علي عبد الرازق في السياسة التي لخصها في كتابه القيم (الإسلام وأصول الحكم) قادت الفكر السياسي العربي إلى الانفتاح والانعتاق من القيود التي فرضت عليه باسم الدين. نعم، لم تُستثمر كما يجب، لكن هذا عيبنا نحن المتأخرين.

عندما غيرت مصر نظامها السياسي عام 1952، تبعها العراق واليمن وليبيا والسودان والجزائر… أما سوريا فقد انضمت إليها لتكوِّنا معا الجمهورية العربية المتحدة. وبسبب مصر وثورتها تأسست حركة قومية عربية باسم زعيمها عبد الناصر ما زالت راسخة الجذور في العالم العربي حتى اليوم.

 المصريون منتشرون في عالمنا العربي كأساتذة ومعلمين وقضاة ومهندسين وأطباء وعمال. من منا لم يدرِّسه مصري أو يعالجه أو يدافع عنه أو يقضي له أو يشيِّد له بيتا؟ ومصر هي الدولة العربية الوحيدة التي حازت على ثلاث جوائز نوبل خلال ثلاثة عقود. 

محل مصر من عالمنا العربي، إذا،ً هو “محل القطب من الرحى”. وهي تهمنا كعرب وشرقيين ومسلمين ومسيحيين وعلمانيين وإسلاميين، مثقفين ومتعلمين، فنانين ومبدعين وعاديين. من يحكم مصر يجب أن يعرف إرثها وتأريخها وحقيقتها (ومشاعيتها) ودورها الرائد وموقعها في نفوس الآخرين… 

الأخوان المسلمون لم يفعلوا ذلك عندما حكموا، بل أرادوا أن يحكموها لأنفسهم ووفق نظريتهم البالية التي أكل عليها الدهر وشرب. هذه النظرية التي تهمِل تماما أن العالم قد تغير كثيرا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٧. وتنسى أن العالم قد تغير أكثر بعد الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥… وتجهل أن العالم تغير أكثر فأكثر بعد انتهاء الحرب الباردة عام ١٩٩٠…

 ثم تغير العالم مرة عاشرة وعشرين وثلاثين بعد تطور الاتصالات والإعلام والتواصل والتعليم والعمل وانتشار العولمة والإنترنت وترابط الاقتصاد العالمي وتكامله. وقد تغير تغيرا جذريا بعد (غزوة) ١١ سبتمبر ٢٠٠١… فلم تعد نظرية الحزب الذي أُسس عام ١٩٢٨ كردة فعل على سقوط الخلافة العثمانية مطلع القرن العشرين مناسِبة للحكم في القرن الحادي والعشرين.

عندما حكم محمد مرسي مصر لم يحكمها كمصري ينتمي إلى ثقافة مصر وتنوعها وتأريخها ومستقبلها، بل حكمها كحزبي أيديولوجي أصولي ينتمي إلى ثقافة أخرى ليست بالضرورة مصرية ويأتمر بأمر شخص غير منتخب، وهو المرشد محمد بديع. مصر كباقي دول العالم، لا تستطيع أن تمنع الأفكار الوافدة إليها بل تستقبلها وتسمح برواجها لكنها لا يمكن أن تسمح بأن تلغي تلك الأفكار والنظريات هوية مصر الوطنية وتقضي على وجودها وتغيِّر ثقافتها وتنهي دورها الريادي وتوقف سعيها للانتماء إلى العالم المتحضر والعيش في الحاضر ومن أجل المستقبل. 

ثقافة الإلغاء والتغييب والتهميش والإهانة ليست مصرية. لقد ودّعت مصر حفيد محمد علي باشا، الملك فاروق، عام ١٩٥٢ توديعا رسميا وأطلقت ٢١ إطلاقة مدفع في وداعه الذي حضره قادة الثورة التي أطاحت نظامه. مثل هذا التكريم لحاكم أطيح به للتو لا يحصل في أي بلد آخر في العالم سوى مصر. والسبب هو أن ثقافة مصر منذ القدم هي الإنسان أولا. فهي منفتحة على كل الأفكار وتحترم كل الأديان وتتسع لكل الثقافات والأذواق وتتفهم كل الأدوار. من قتل فرج فودة لا ينتمي إلى ثقافة مصر. ومن طعن نجيب محفوظ محاولا تغييبه في خريف عمره غريب عن مصر. ومن حاول تغييب نصر حامد أبو زيد وحمله وزوجته على مغادرة مصر ليموت خارجها لا ينتمي إلى مصر. ومن حاول تغييب سيد القمني لا تهمه مصر أو حضارتها بل هو مهووس بأمر آخر. ومن قتل حسن شحاتة تلك القتلة البشعة لا ينتمي إلى ثقافة مصر مطلقا. ومن قتل أنور السادات هو الآخر ينتمي إلى نفس الفصيل. إنهم يحملون ثقافة همجية غريبة على مصر الحضارة والتسامح والتنوع واحترام الآخر.  

مصر الجامعة والجامع هي لكل العرب والمسلمين والشرقيين وبني البشر أجمعين، ففيها يجد الجميع ضالتهم. ومصر هي البلد الوحيد الذي يجمع المسيحيين والمسلمين السنة والشيعة في طائفة واحدة، فمصر قبطية، سنية المذهب شيعية الهوى كما قيل قديما، والأزهر الشيعي تأريخيا يدرّس الفقه السني، والفقه السني الأزهري يجيز التعبد على المذهب الجعفري. مصر الإسلامية تفتخر بحضارتها القبطية الفرعونية والمصريون كلهم أقباط. 

إن جاز للبلدان الأخرى أن تتخذ نظاما أيديولوجيا أصوليا منغلقا للحكم، فهذا لا يجوز لمصر ولا يصلح لها ولا يليق بها، لأنها تحتضن الجميع وتمثل الجميع. إنها الطيف الذي يضم كل الألوان والأرض التي تقدس الإنسان.