الحياة ١٨ يونيو  ٢٠١٣

كان العلمانيون أول من تنادى لنصرة ثورات الربيع العربي التي اعتقدوا أنها ثورات من أجل الحرية والديموقراطية والحداثة، إلا أن موقفهم المبدئي هذا قد تغير بعد اتضاح معالم الأنظمة التي تلت سقوط الأنظمة الاستبدادية العربية. فالأنظمة الجديدة أصبحت أقسى على الحرية والحداثة والاختلاف، وأكثر عداء للديموقراطية، من الأنظمة التي سبقتها، والأسوأ أن القسوة والعداء يُرتكبان باسم الشرعية الدينية.

أما قوى التطرف الإسلامي في الثورة السورية فقد أقنعت من تبقى من المشكِّكين، عبر ارتكابها جرائم ضد المدنيين والأطفال والجنود السوريين، بأن مستقبل الحداثة والعلمانية والليبرالية في العالم العربي قد أصبح في خطر داهم، ما دفع العلمانيين العرب والمسلمين إلى اتخاذ موقف مطابق أو مقارب لموقف حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية المناصر لنظام بشار الأسد.

ليس عيباً أن يعدِّل العلمانيون مواقفهم المبدئية دوماً، والمتشددة في أكثر الأحيان، إن كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. فمن حقهم، كفئة مهددة في المجتمع، أن يستخدموا معيار المصلحة لتقرير المواقف، كما يفعل باقي السياسيين في العالم، فليس مفروضاً عليهم أن يتشددوا في الالتزام بالمبادئ الذي قد يؤدي إلى نتائج معاكسة للمقاصد التي ينطلقون منها. إنهم لا يتجاهلون الاستبداد في موقفهم هذا، لكنهم نظروا بجدية إلى الخيارات المتوافرة أمامهم فاختاروا الأقل مرارة.

فالأنظمة الإسلامية المعتدلة هي بالتأكيد أفضل لهم من المتشددة، ويمكن العلمانيين أن يلجأوا إليــها في غياب البديل الديموقراطي الحقيقــي، كما أن الأنظمة غير الديموقراطية التي تسمح بمساحات كبيرة من الحرية الشخصية وحرية الرأي (كالنظام المصري السابق) هي بالتأكيد أكثر اتساعاً للأفكار العلمانية وأخصب تربة لنمو الليبرالية والديموقراطية على الأمد البعيد من الأنظمة الإسلامية المتشددة التي تسعى إلى فرض القيود على الحريات الشخصية والعامة. كما أن نظام بشار الأسد الاستبدادي هو أفضل من نظام تتحكم به جبهة النصرة لأنه يسمح ببعض الحريات الشخصية.

الإسلاميون المعتدلون يدعون إلى النظام العلماني عندما لا يستطيعون تحقيق النظام الإسلامي الذي يتفق مع رؤيتهم المحددة للدين، وقد دافع المسلمون في البلدان ذات الغالبية غير الإسلامية كالهند، عن النظام العلماني وتمسكوا به بقوة لأنه يوفر لهم الحرية والحماية من القوى الأخرى المعادية لهم.

وفي مقال على موقع «الجزيرة نت» في نيسان (أبريل) عام ٢٠١٠، دعا الزعيم الإسلامي التونسي الشيخ راشد الغنوشي إلى قيام نظام علماني في العراق باعتبار أن التعددية المذهبية والدينية والقومية فيه تجعل الانسجام غير ممكن إلا في ظل علمانية محايدة. وقد انطلق الشيخ الغنوشي في هذا الموقف المناقض للنهج الذي تتبعه حركة النهضة في تونس، من مصلحة التيار الذي ينتمي إليه وهو التيار الإسلامي السنّي الذي لا يمكنه الوصول إلى السلطة في العراق بسبب وجود غالبية شيعية.

وعندما ناقشت الأمر مع الغنوشي بُعيد نشر مقاله، في لقاء في مبنى تلفزيون الحوار في لندن، وكان حينذاك ما زال لاجئاً سياسياً في بريطانيا، سألته عن سبب تأييده قيام نظام علماني في العراق ورفضه ذلك في تونس، كرر الغنوشي القول إن تونس متجانسة مذهبياً ولا تواجه مشكلة في تطبيق النظام الإسلامي فيها، بينما العراق غير متجانس لوجود التنوع المذهبي والديني.

وفي هذا الرأي يعترف زعيم إسلامي بارز بأن النظام العلماني هو الأفضل لجماهير السنّة من حكم الشيعة (الإسلامي)، ولجماهير الشيعة من حكم السنّة (الإسلامي)! بعبارة أخرى، إن النظام العلماني الذي تذوب فيه الهويات الطائفية هو أفضل لجميع الطوائف من تسلط إحداها على الأخريات. لكن افتراض الشيخ الغنوشي بأن تونس بلد متجانس هو افتراض موغل في التبسيط إذ لا يوجد شعب متجانس على الإطلاق، لا سابقاً ولا حالياً، فإن كان متجانساً دينياً فهو غير متجانس مذهبياً أو قومياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو تعليمياً أو ثقافياً أو لغوياً. كما أن المناطق تعتبر أيضاً أساساً آخر للتمييز.

إن تطور الحياة العصرية قد قاد إلى مزيد من التنوع في أنماط الحياة وأساليبها وأدى إلى تباين القناعات الفكرية والسياسية وحتى الدينية بين أبناء البلد الواحد والمجتمع الواحد، وجعل الاختلاف في الرؤى والتفاوت في المستويات الثقافية أمرين طبيعيين ومقبولين حتى داخل العائلة الواحدة، وهذا التنوع الشديد يحتاج إلى نظام حكم محايد قادر على خدمة الجميع بعدالة وكفاءة.

وبعد عشر سنوات على سقوط النظام الديكتاتوري في العراق ومجيء الأحزاب الإسلامية إلى الحكم، بدأ التشدد الديني عندها بالانحسار بعد أن انخرطت في الحكم وأدرك قادتها وأعضاؤها أن فرض القيود الدينية على الناس لن يحقق المصلحة ولا الاستقرار ولا يعزز من شعبيتهم أو يأتي بأي فائدة على المجتمع. نعم، ما زالت بعض الجماعات الصغيرة تمارس التشدد كورقة سياسية تجدها رابحة في ظل التناقضات السياسية السائدة في البلد.

إلا أن التشدد الإسلامي السوري ما زال في بدايته خصوصاً أنه يستعين بمنظمات إرهابية معروفة كالقاعدة للوصول إلى السلطة وهذا هو السبب الذي جعل البلدان الغربية تتردد في دعم المعارضة السورية بالسلاح.

ولولا دخول الجماعات الإسلامية المتطرفة ساحة الصراع، وفشل الجماعات المعتدلة في تمييز أنفسها عن المتطرفين عبر تبنّي خطاب معتدل ومقنع، لكانت الثورة السورية قد نجحت منذ زمن بعيد. لكن وجود تلك الجماعات المسلحة، وبعضها أجنبي، قد أصاب المجتمع الدولي بالهلع ودفع بإيران وحزب الله وروسيا والصين، وإلى حد ما العراق، إلى الوقوف بقوة مع النظام السوري ضد احتمالات وصول متطرفين يحاربون كل من يختلف معهم في الرأي أو المذهب، كما حصل في أفغانستان في ظل طالبان.

ومن الجدير بالذكر أن الغزو الأميركي أفغانستان عام ٢٠٠١ لم يعارضه أحد في شكل جدي، إلا بعض الجماعات المتطرفة التي تعيش على هامش الحياة، بسبب وجود إدراك واسع بأن حكم طالبان والقاعدة وأمثالهما في مناطق أخرى، يشكل خطراً على الإنسانية جمعاء.

لقد برهن العلمانيون والليبراليون في السابق أنهم غير واقعيــيــن في تعاملهم مع الأحداث لأنهم دائماً ينطلقون من المبادئ، وليس المصالح، في تحديد مواقفهم، إلا أنهم أدركوا بعد تجــارب الربيع العربي المخيبة للآمال، وما ارتكبته بعض القوى الدينية الثائرة في سورية من جرائم بشعة ضد خصومها، أن التحليق في سماء المبادئ، وإن كان جميلاً ومنسجماً مع الفكر والمزاج والضمير، فإنه سيــعود عليــهم بضــرر مــاحق في ظل قــوى ماضوية متطرفة تعتقد أنها وحدها تمتلك الحقيقة والشرعية السماوية، فاختاروا البقاء على قيد الحياة في ظل أنظمة أقل قسوة عليهم ولا تسعى بقوة لاجتثاثهم.

 http://alhayat.com/OpinionsDetails/524539