الأربعاء 5 يونيو 2013 / 21:30

 

لم تعُد الاحتجاجات أمراً مستغرباً في بلادنا، فالأحزاب والتجمعات السياسية ‪وجماعات‬ الضغط ومنظمات المجتمع المدني، بل والشعوب بشكل عام، أخذت تدرك أن أفضل وسيلة لنيل الحقوق هي التظاهر السلمي وطرح المشاكل والمظلوميات في وسائل الإعلام وشرحها للرأي العام المحلي والعالمي، خصوصا مع إمكانية استجابة الحكومات، والمعنيين بشكل عام، لمطالب المحتجين وتنفيذها كليا أو جزئيا، أو على الأقل أخذها بنظر الاعتبار مستقبلاً أثناء رسم السياسات واتخاذ القرارات

لقد طالت الاحتجاجات الشعبية أخيراً تركيا، لكنها احتجاجات من نوع مختلف، فقد قام بها ناشطون مدنيون علمانيون ضد حكومة إسلامية منتخبة ديمقراطياً، لكنها متهمة بمحاولة السعي لتقويض النظام العلماني المدني في البلاد، ولو تدريجيا وعبر وسائل غير عنفية. 

منذ مجيء رجب طيب أردوغان وحزبه الإسلامي (المعتدل) إلى الحكم في تركيا عام ٢٠٠٣، أصبح نظامه (الإسلامي) مثالاً يحتذى به في العالم الإسلامي خصوصاً بين الأحزاب الدينية المعتدلة، سنية كانت أم شيعية، باعتبار أن تجربته مقبولة غربياً وناجحة اقتصادياً وسياسياً. أتذكر أن الناطق باسم الحكومة العراقية الأسبق، الدكتور ليث كبة، قال في أحد مؤتمراته الصحفية آنذاك مبرراً زيارة رئيس الوزراء حينها إلى تركيا، إن العراق يريد أن يقتدي بالمثال الإسلامي التركي “المعتدل” وليس المثال الإيراني “المتشدد” وهذه هي الرسالة التي يريد أن يرسلها إلى العالم عبر زيارة رئيس الوزراء إلى تركيا. 

وقد أصبح المراقبون الغربيون يذكرون المثال التركي على أنه مثال معتدل للإسلام السياسي، باعتبار أن تركيا في ظل الحكم الإسلامي لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل التي يرفضها العالم الإسلامي لاغتصابها حقوق الشعب الفلسطيني واحتلالها القدس، وهي (متسامحة) في ما يتعلق بالحريات الشخصية إذ لم تضيِّق الخناق على غير المتدينين في أنماط حياتهم الخاصة، ولم تمنع النشاطات الفنية أو تغلق محال بيع الخمور أو الملاهي والمرافق السياحية التي يتعارض بقاؤها مع أحكام الشريعة الإسلامية في رأي الكثير من الإسلاميين. كما أنها لم تسعَ لاجتثاث خصومها عبر الإقصاء أو الاغتيال بل التزمت بالقانون والضوابط الديمقراطية.

تحاول تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ عدة عقود، وحكومة أردوغان تعلم جيداً أن أي تجاوز على الحقوق المدنية المتعارف عليها في العالم، خصوصاً حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، سوف يعرقل هذا الانضمام ويؤخره سنيناً أخرى، رغم أن احتمالات الانضمام ليست جيدة حالياً بسبب اعتراضات الاتحاد على سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الشعب الكردي في تركيا. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا تعتمد على السياحة الغربية كمصدر رئيسي من مصادر الدخل القومي، وإن مارست أياً من السياسات الإسلامية المتشددة فإنها ستخسر جزءاً كبيراً من هذا المصدر. وتركيا عضو في حلف الناتو وإن هي ابتعدت بسياساتها عن أجواء الحلف فسوف تخسر الكثير من الفرص والدعم الغربي. 

إلا أن الإسلاميين الأتراك، ومع الإقرار باختلاف منهجهم عن باقي الإسلاميين في منطقتنا، ولهذا الاختلاف أسبابه التي سأتطرق لها باختصار لاحقاً، فإنهم في نهاية المطاف يسعون، أو يفترض أنهم يسعون، لإقامة ما يرونه “شرع الله” المعتمِد على القرآن والسنة. إن اختلافهم هذا (أو اعتدالهم) لم يكن بسبب “تنازل” منهم للرأي الآخر أو لمن يختلف معهم، أو أنه جزء من معتقدهم السياسي المنفتح، بل لأنهم مقيدون بضوابط وقوانين نظام الحكم العلماني الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك منذ حل الامبراطورية العثمانية عام ١٩٢٤. فقد أصبح النظام العلماني راسخاً في المجتمع التركي وله أنصار ومؤيدون كثيرون ولن تستطيع أي مجموعة سياسية، مهما بلغت شعبيتها، أن تتجاوز على القيم العلمانية المؤسَسَة في المجتمع التركي والتي استفاد منها الجميع وتربى في كنفها حتى الإسلاميون، بمن فيهم أردوغان وحزبه.

الاحتجاجات السلمية هي دون شك وسيلة حضارية ترافق تطور المجتمع. إلا أن ما يشوب الاحتجاجات أحياناً، ليس في مناطقنا فحسب بل في مناطق أخرى من العالم أيضاً، هو حدوث أعمال تخريب وعنف متفرقة قد تتفاقم أحيانا وتتخللها جرائم اعتداء وقتل وتخريب للممتلكات والمرافق العامة، ما يستدعي تدخل الشرطة بوسائلها المعروفة لحفظ الأمن والنظام وحماية الممتلكات العامة. وفي هذا الإطار، فإن ما حصل في تركيا لا يختلف كثيراً عما حصل ويحصل في بلدان أخرى.

لكن الاحتجاجات الحالية في تركيا تختلف في مقاصدها عما يحصل في منطقتنا العربية منذ أواخر عام ٢٠١٠ وحتى الآن، وتتجاوز أهدافها الاعتراض على قطع الأشجار في ساحة “تقسيم” في إسطنبول، وهو السبب الذي أدى إلى اندلاعها ابتداء. إنها تشير بوضوح إلى أن الشعب التركي، أو على الأقل قسماً كبيراً منه، متمسك بالقيم العلمانية ورموزها وما يشير إليها من ساحات وتماثيل وشواهد، وأنه منتبه تماما لما يفعله أردوغان وحزبه من إجراءات ربما تهدف في نهاية المطاف إلى تقويض النظام العلماني الذي قامت على أساسه تركيا الحديثة.

أردوغان، الذي ساند احتجاجات شعبية أخرى جرت في دول مجاورة، يذوق الآن مرارة ما ذاقه غيره من الحكام الذين واجهوا احتجاجات مماثلة، وهو الآن ربما يعيد حساباته بخصوص التدخل في شؤون الدول الأخرى التي اعتبرها أصغر أو أقل أهمية من بلده. لكنه لم يختلف كثيراً عن الحكام الآخرين في المنطقة من حيث إلقائه اللوم على “جهات خارجية”!

لقد أصبحت الاحتجاجات الشعبية سمة رئيسية من سمات المجتمعات الحديثة ولن يسلم منها أي نظام، خصوصاً الأنظمة الأيديولوجية التي تعتقد أن من حقها وقف التطور في المجتمع تحت ذرائع دينية، أو تغيير هويته لأسباب سياسية، أو فرض رؤاها السياسية والدينية عليه وتقييد الحريات المدنية فيه. شعوب المنطقة، كباقي شعوب الأرض، لن ترضخ لمساعي التدجين والترويض والتهديد والتخويف التي تمارسها بعض الأحزاب والجماعات باسم الدين أو الوطنية أو أي مسمى آخر. 

إن اتهام “الخارج” بتأجيج الاحتجاجات في الداخل لم يعُد مقبولاً أو مستساغاً، حتى وإن كان صحيحاً في بعض جوانبه. الاحتجاجات الشعبية لها أسباب داخلية حقيقية ويجب التعامل معها على هذا الأساس. ما يحصل في تركيا حالياً هو خير مثال على أن الشعوب ترفض محاولات فرض أية رؤية أحادية للحياة أو الدين عليها، وأن السبيل الوحيد للاستقرار والتقدم هو احترام التنوع السياسي والديني والثقافي وحمايته، بل وتنميته لأنه يدعم الديمقراطية والحرية.

لقد سئمت شعوبنا من تجارب “الرعاية الأبوية” التي مارستها بعض الجهات السياسية والدينية على المجتمع منذ مطلع القرن الماضي، وقد آن الأوان لأن تحترم الأحزاب والجماعات السياسية أنماط الحياة المتعددة التي ترتضيها شرائح المجتمع المختلفة لأنفسها كي يتمكن الجميع من التعايش بسلام.