الأربعاء 15 مايو 2013
 
يدرس البرلمان العراقي حالياً تشريع قانون جديد يسمى “قانون تجريم حزب البعث”. ومشروع القانون ينسجم مع الدستور الذي حظر أي نشاط لهذا الحزب بعد الدمار والخراب الذي خلّفه في العراق أثناء فترة حكمه التي بلغت 35 عاماً. إلا أن نظرة متفحصة إلى مشروع القانون تُنبئ بأنه سَيُساء تطبيقُه كما أُسيء تطبيق قانوني “اجتثاث البعث” ثم “المساءلة والعدالة” من قبله.
 
ليس هناك حاجة فعلية لهذا القانون الجديد، فقانون العقوبات الحالي يحظر النشاطات العنصرية والإرهابية والتحريض على العنف والكراهية، ولا حاجة لأن تربط هذه النشاطات بحزب أو جماعة معينة. كما أن الدستور يحظر أي نشاط سياسي لحزب البعث وكل النشاطات التي مارسها الحزب كانت خارج القانون واتخذت طابع العنف العشوائي.
 
مشروع القانون هذا، إن أُقر، فإنه سيستخدم لملاحقة الخصوم الشخصيين والسياسيين وسيقع الأبرياء ضحية له لأنه عائم وغامض ويمكن تفسير نصوصه بالطريقة التي يريدها منفذوه الذين هم كباقي البشر لهم أعداء وخصوم وأحباب وأصدقاء. ولنتفحص مادة واحدة من مشروع القانون هذا كي نعرف مدى خطورته، على سبيل المثال، وهي المادة الرابعة- ثالثاً، التي تنص على حظر “أي نشاط سياسي أو فكري من شأنه التشجيع أو الترويج أو التمجيد لفكر حزب البعث أو التشجيع على الانتماء إليه”. 
 
هناك عدة مشاكل في هذا النص منها مثلاً أن “حظر النشاط الفكري” يتعارض مع نص الدستور الذي يتيح للمواطنين القيام بأي نشاط فكري والذي هو بطبيعة الحال سلمي ولا يتعدى على أحد لأنه في الأساس فكري وليس عملياً. والمشكلة الثانية هي كيف يمكن أن يُصنَّف هذا النشاط بأنه يسعى للترويج لحزب البعث والتمجيد به والتشجيع على الانتماء إليه؟ ومن الذي يتخذ مثل هذا القرار وكيف يتم ذلك؟ ألا يسمح هذا النص للعداوات الشخصية والحزبية في أن تأخذ مداها الكامل وتدخل ضمن تفسيرات مفردات “التشجيع” أو “الترويج” أو “التمجيد”؟
 
ثم ما هي هذه الأفكار التي تميز بها حزب البعث والتي تستحق الحظر؟ حزب البعث كان يستغل عواطف الناس وتوجهاتها القومية والدينية في تلك الفترة كي يكسب تأييدها له، لذلك صمم أهدافه حسب الأفكار والمشاعر التي تستهوي الناس في تلك الفترة، لذلك أتى بفكرة “الوحدة والحرية والاشتراكية”. فهل الترويج لهذه الأفكار يستحق التجريم؟ إن كان هذا ممكناً فهل نستطيع أن نجرّم أفكاراً استخدمتها أحزاب أخرى لكسب الناس، كالأحزاب الدينية مثلاً، لكنها لم تطبقها على أرض الواقع، تماماً كما فعل حزب البعث الذي لم يطبق أياً من الأفكار التي أعلن أنه يؤمن بها؟ بل مارس النقيض للحرية والوحدة والاشتراكية. إنها أفكار استخدمها من أجل تضليل الناس فقط. لقد كان حزب البعث من أكثر الأحزاب التي شقت الأمة العربية وأحدثت فيها شرخاً كبيراً وتعدت على حريتها وقمعت شعوبها وضيقت مساحات الحرية التي كانت متاحة سابقاً وأساءت إلى معتقدات الناس وزادت في التفاوت الطبقي الذي زاد الفقراء فقراً والأثرياء ثراءً.
 
المشكلة في حزب البعث ليس في الفكر الذي تبناه وادعى أنه يسعى إلى تطبيقه، فليس هناك من يعترض على الوحدة إن كانت ستخدم الناس وتتم برضاهم ومشاركتهم، وبالتأكيد ليس هناك شخص في العالم يعترض على الحرية التي يطالب بها العالم كله، كما إن الاشتراكية ليس فكراً عنصرياً أو يساهم في التحريض على الكراهية أو العنصرية وهناك من يدعو لها في كل بلدان العالم تقريباً لأنها فكرة إنسانية تدعو لإنصاف الفقراء.
 
مشكلتنا مع حزب البعث هي في الجرائم التي ارتكبها قادته وأعضاؤه الكبار بحق الشعب العراقي والقمع والانتهاكات التي مورست بحق الإنسان العراقي، وإعلان الحروب التي شنها على البلدان الأخرى دون وجه حق، وتبديد ثروات العراق وتشتيت طاقاته البشرية وتبذير موارده الطبيعية. مشكلتنا مع حزب البعث هي في تسليم مقدرات العراق إلى شخص واحد مهووس بالسلطة وجعله يتحكم بالعراق وشعبه لأكثر من ربع قرن، وليس في الفكر الذي ادعاه وزعم أنه يسعى إلى تحقيقه.
 
هذا القانون سيزيد العراق فرقة وانقساماً وسوف يحتج عليه كثيرون أثناء تطبيقه والسبب هو أننا نعلم من التجارب السابقة أنه سَيُساء فهمُه وتطبيقه وسوف يفسره مطبقوه حسب ما تقتضيه مصالحهم وأهواؤهم. إنه قانون سيسبب للعراق وشعبه مشاكل جديدة تزيد من فرقته وانقسامه الطائفي والسياسي ويفاقم العداء المجتمعي بين أفراده ويثير الأحقاد والعداوات السابقة ويؤججها، وهو بالتأكيد لن ينفع من يسعى إلى تشريعه حالياً لأنه سيضر بالعراقيين جميعاً ويضعف العراق كدولة عصرية. 
 
حزب البعث انتهى عملياً منذ تولي صدام حسين السلطة عام 1979 عندما أقدم على إعدام قيادة الحزب وتركيز السلطة كلها في يديه وأيدي أبنائه وأخوته وأبناء عمه وقسر الناس بشتى الطرق على الانتماء إلى الحزب، لذلك فإن مثل هذا القانون ربما يعيد الحياة إلى جثة هامدة. العراق بحاجة إلى فتح صفحة جديدة تسدل الستار على الماضي وتركز على المستقبل، وإلى قوانين تشجع التسامح وتكافئ العمل والإبداع من أجل صنع مستقبل أفضل لكل أبنائه. التقوقع في الماضي لن يقودنا إلى المستقبل.