الأربعاء 1 مايو  2013

 
 من سلمية إلى دموية
الاحتجاجات التي كانت سلمية في العراق تحولت إلى مصادمات دموية قبل أيام بعد أن أن قتل مسلحون كانوا بين المتظاهرين ثلاثة جنود في نقطة تفتيش عسكرية في الحويجة في محافظة كركوك، وقد دفع هذا العمل الاستفزازي الجيش إلى إطلاق النار على المتظاهرين ما تسبب في مقتل العشرات منهم في سابقة هي الأولى من نوعها منذ عشر سنوات، وهي تنذر بعواقب وخيمة.

انجرار الجيش إلى هذا العمل المسلح ضد المتظاهرين، وهو عمل غير مبرر تحت أي ظرف، حتى وإن كان بعض المتظاهرين قد بدأ بالاعتداء، إذ أنه وضع العملية السياسية برمتها في مأزق خطير.. المتظاهرون الذين حرصوا على سلمية المظاهرات خلال أربعة أشهر، قد يلجأ بعضهم، أو المندسون في صفوفهم، إلى حمل السلاح والدخول في معارك جديدة مع الجيش والأجهزة الأمنية التي سترد بالمثل دون شك، فإن لم ترد على مهاجميها فسوف تعطي انطباعا بأنها ضعيفة ما يشجعهم على المزيد من أعمال العنف. هذا المشهد هو ما أراده المتشددون والإرهابيون منذ زمن بعيد لكنه لم يتحقق إلا الآن. المسؤول عن هذا التدهور الخطير هو من أمر بإطلاق النار على المتظاهرين.

الجيش بديلاً للشرطة
 
إن إضطلاع الجيش، في مهمة حفظ الأمن، التي هي من اختصاص الشرطة حصراً، عادة ما يقود إلى نتائج غير مرغوب بها لأنه ببساطة لا يجيد إدارة الأمن. فتدريب الجيش يأمره بإطلاق النار على (العدو) عندما يرى خطراً، بينما تدريب الشرطة يأمرهم بالتعامل مع مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات وليس مع (عدو). لكن الوضع الأمني المضطرب في العراق ودخول عناصر مسلحة أجنبية للقيام بأعمال عنف وتخريب تطلب انخراط الجيش أيضاً في مهمة حفظ الأمن وحراسة الحدود. لكن التظاهرات والاعتصامات هي مظاهر مدنية وكان على الحكومة ألا تزج الجيش في مهام أمنية بهذا الخصوص لأنه لا يجيدها.

حل الجيش 
المأزق الحالي في العراق لم يأت من فراغ. فالمناطق السنية مستاءة من الوضع الجديد منذ التغيير عام ٢٠٠٣. أولى القضايا التي استفزتهم كانت قرار الحاكم الأمريكي المدني للعراق، بول بريمر بحل الجيش. وكان الجيش السابق يضم الكثير من الضباط السنة الكبار بينما شكّل الشيعة معظم مراتبه الدنيا وجنوده. وقد ترك قرار حل الجيش ما يفوق نصف المليون إنسان مسلح دون مصدر رزق ما دفع كثيرين منهم إلى الانخراط في أعمال مسلحة ضد النظام الجديد.

اجتثاث البعث
والقضية الأخرى التي فاقمت الوضع كانت قانون “المساءلة والعدالة” أو “اجتثاث البعث” الذي أصدره بريمر أيضا والذي منع انخراط البعثيين في العمل السياسي، ومنع ذوي المراتب العليا منهم من العمل في دوائر الدولة. وقد تسبب هذا القرار في إيذاء المجتمع والدولة والمنتمين إلى حزب البعث على حد سواء لأنه حرم الدولة من طاقات لها خبرات إدارية وعلمية وجرد آلاف العائلات من مصادر رزقها. ويعتقد كثيرون من السنة أن هذا القرار أضر بهم أكثر من غيرهم، وإنه يطبق بانتقائية، فالموالون للنظام الجديد من البعثيين الشيعة يعادون إلى الخدمة بينما يحرم أمثالهم من السنة من هذا الحق. والغريب أن كثيرين من البعثيين الشيعة يرون أنهم استهدفوا وعوقبوا لأنهم شيعة وليس هناك من يحميهم في المحافظات الشيعية بينما يتمتع البعثيون السنة بحماية عشائرهم ومجتمعاتهم. الملاحظ أن الانتقائية لم تُبنَ على أساس طائفي وإنما على أساس الولاء للنظام الجديد لأن هناك بعثيين سنة كثيرين قد انخرطوا ضمن الحكومة والجيش عندما اتضح أنهم ليسوا موالين للنظام السابق.

المادة ٤ إرهاب
لكن المشكلة التي فاقمت الوضع هي المادة ٤ من قانون مكافحة الإرهاب التي اعتقل كثيرون من المتهمين أو من أفراد عائلاتهم بموجبها. ويقول كثيرون من أبناء السنة إن هذه المادة تطبق عليهم دون غيرهم باعتبار أنهم وحدهم المتهمون بالإرهاب بينما لا يُتهم الشيعة بذلك. إلا أن مثل هذه الشكاوى تُسمع أيضا من جهات شيعية اعتقل كثيرون من افرادها وبقوا في المعتقل أو السجن بتهمة الإرهاب أو ممارسة العنف. من الواضح أن هناك تشديداً أمنياً أكبر في المناطق السنية لأن المسلحين، وكثيرون منهم أجانب دافعهم الأول ديني أو طائفي، ينطلقون من المناطق السنية التي وجدوا فيها سابقا من يأويهم من أتباع النظام السابق. لكن التشدد الأمني كان ثقيلاً على السنة الذين حاربوا الإرهاب والمجاميع المسلحة بقوة منذ عام ٢٠٠٧ وشكلوا ما سمي لاحقاً بـ “مجالس الصحوة” وتشكيلات “أبناء العراق” المسلحة لمحاربة تنظيم القاعدة وانخرطوا في العملية السياسية بقوة.

ملاحقة الهاشمي 
وبعد أن أصبح الملف الأمني بأيدي العراقيين كلياً بعد مغادرة الأمريكيين أواخر عام ٢٠١١، اتهمت الحكومة نائب الرئيس (السني) طارق الهاشمي بالتخطيط لأعمال إرهاب وتنفيذ بعضها، وبينما هرب الهاشمي إلى تركيا خوفاً من الاعتقال، اعتقلت الشرطة أفراداً من حمايته الذين “اعترفوا” بقيامهم بأعمال عنف بأمر منه، وقد حُكم على الهاشمي غيابياً بالإعدام. كثيرون شككوا بسلامة الأدلة المقدمة للمحكمة واعتبروا اعترافات منتسبي الحماية منتزعة تحت التعذيب، خصوصا وأن أحدهم قد توفي في المعتقل.

ثم العيساوي 
وبعد أن هدأت أزمة الهاشمي، وسويت الخلافات مع نائب رئيس الوزراء صالح المطلك (السني)، الذي عاد إلى الحكومة بعد أشهر من المقاطعة تزامنت مع قضية الهاشمي، اتهمت الحكومة أحد مرافقي وزير المالية (السني) رافع العيساوي، بالتعاون مع أفراد من حماية نائب رئيس الجمهورية الهارب، طارق الهاشمي، بالتخطيط وتنفيذ أعمال عنف. وقد دفع ذلك الوزير العيساوي إلى مغادرة بغداد إلى معقله في الأنبار والدعوة إلى احتجاجات ضد الحكومة لم تهدأ حتى الآن. كما دفعت الأزمة نفسها وزراء سنة آخرين إلى الاستقالة، واتسعت الاحتجاجات في ما بعد لتشمل محافظات أخرى تقطنها غالبية من السنة كنينوى وصلاح الدين.

خطاب طائفي
المشكلة الجديدة التي نشأت بسبب الاحتجاجات هي الخطاب الطائفي العلني الذي استخدمه بعض السياسيين وقادة المتظاهرين والناطقين باسمهم. الشيخ سعيد اللافي مثلاً يعترض حتى على إعدام المدانين بجرائم عادية ويقول إنهم أعدموا لأنهم من أهل السنة! الشيخ عبد الملك السعدي يصف الحكومة بأنها “حكومة فارسية صفوية حاقدة تريد تسليم العراق لإيران” ويؤيد تأسيس جيش خارج أطار الدولة “لحماية المتظاهرين”!

حل دستوري

 استمرار المظاهرات والاحتجاجات في المناطق السنية لأربعة أشهر قد أوصل الأزمة إلى مرحلة خطيرة ودفع البلاد نحو حافة الحرب الأهلية التي بدت ملامحها واضحة الآن مع حدوث تفجيرات في مساجد سنية وشيعية ومقتل جنود شيعة من الناصرية في الأنبار أثناء قيامهم بواجباتهم.

 كان بالإمكان تجنب كل هذه المشاكل عبر السماح بتشكيل أقاليم فدرالية نص عليها الدستور، وكانت محافظة صلاح الدين، ذات الأغلبية السنية، قد سعت إلى ذلك في العام الماضي لكن الحكومة حالت دون تحقيق ذلك مدعية أن الإقليم الجديد سيكون ملاذاً للبعثيين والإرهابيين. معارضة الحكومة تشكيل المحافظات أقاليم فدرالية قد جعلها تواجه المشاكل في هذه المناطق بنفسها، كما حصل في الحويجة الأسبوع الماضي، بدلاً من أن تواجهها حكومة الإقليم كما يحصل في كردستان. 

العراق في أزمة سياسية وإنسانية خطيرة وهو بحاجة إلى إجماع سياسي كي يخرج منها. المؤتمر الوطني الذي تحدث عنه السياسيون قبل عامين أصبح الآن ضرورة قصوى، وفي غياب ذلك فإن الحرب الأهلية هي الاحتمال المرجح.