الحياة-الخميس
   ٢٥ نيسان/
ابريل  
2013
 
يعزو البعض تنامي التيار الديني في منطقتنا العربية إلى فشل التيارات السياسية الأخرى التي كانت سائدة في المنطقة العربية، وتحديدا التيارين القومي والاشتراكي- الشيوعي اللذين حكما معظم دول المنطقة ولم يحققا الرخاء أو الاستقرارأو دولة القانون. كما أنهما لم يحررا فلسطين التي وعدا بتحريرها وتغنيا بذلك ردحاً من الزمن. لذلك فإنه لم يبقَ أمام شعوب المنطقة سوى الخيار الإسلامي وهي تريد أن تجربه عله ينجح فإن فشل فسوف تبحث عن خيارات أخرى.

لكن الحقيقة هي أعمق من ذلك في رأيي، على رغم وجاهة الرأي أعلاه وصحته، فشعوبنا لم تنظر إلى الأمام منذ زمن بعيد بل ظلت تنظر إلى الماضي (التليد) باعتباره المثال الذي تسعى من أجل تقليده والعيش في ظله، ولم تهتم كثيرا لما يحصل في الدول الأخرى من تطورات سياسية واجتماعية كي تأخذ منها وتتأثر بها. فالشعور السائد منذ قرون هو أننا نؤثر بالآخرين ولا نتأثر بهم لأننا الأقوى والأفضل. وهذا شاعرنا مصطفى جمال الدين، بين كثيرين، ينشد مخاطباً الأمة (عودي لأمسِكِ ينطلق منك الغد)! فالأمس، لا المستقبل، كان دائماً هدفنا وأن غاية ما نبتغيه هو أن نحقق ما حققه أسلافنا الراشدون والأمويون والعباسيون والعثمانيون من توسع وكيف أنهم حكموا الأمم الأخرى وسيطروا عليها وفرضوا عليها معتقداتهم. وحتى الأحزاب القومية واليسارية كانت موغلة في طوباويتها، فهي لم تتحرر من ثقافة المثالية وإمكانية تحقيق المعجزات.

كثيرون من مفكري الأمة وقادة الرأي فيها فصلوا بين التقدم التقني والتقدم السياسي والاجتماعي فأرادوا الأول وتبنوه وقلدوه ونبذوا الثاني وتجنبوه وعزفوا عنه لأنهم اعتقدوا أن بالإمكان تحقيق الأول وتجنب الثاني، الذي يمكن تحقيقه عبر تقليد الأسلاف الناجحين، لكن التقدم يأتي حزمة واحدة حسب رأي علماء الاجتماع الذين تحدثوا عن المكون الثقافي الكامن في التكنولوجيا، وبين هؤلاء العالم العراقي علي الوردي الذي يرى أن التطور المجتمعي حركة واحدة تحصل في كل مناحي الحياة بالتزامن ولا يمكننا أن نأخذ قسماً منها ونترك الآخر لأنها كلها مرتبطة ببعضها البعض، فالتقدم التقني يغيِّر طرق الحياة وسبل العيش ووسائل العمل والنقل والتواصل الاجتماعي. 

لقد ظل مفكرونا وقادتنا السياسيون والدينيون، طيلة القرون الماضية، يحلمون بإعادة “أمجاد” الماضي، من “توحيد” الأمة (العربية أو الإسلامية) المترامية الأطراف وإخضاعها لحكم الخلافة، إلى إعادة الأندلس إلى (حظيرة) الأمة. بل إن بعضهم بقي يندب حظه كيف خرجت مالطا وقبرص ودول البلقان وبعض دول أفريقيا عن الحكم الإسلامي وأصبحت مستقلة.

بعض أحزابنا السياسية مثل “التحرير” و”البعث” و”القومي السوري” توغل في تفكيرها التوسعي المبني على أساس الهيمنة والتفوق، فالتحرير لا يرضى بغير عودة الخلافة الراشدة وتوحيد الأمة الإسلامية تحت لوائها، والبعث يريد توحيد الأمة العربية في دولة واحدة، وكان مؤسسه ميشيل عفلق يقول (كان محمد كل العرب فليكن كل العرب اليوم محمداً) ولا تسألوا عن المعنى فهو في قلب (الشاعر) ميشيل عفلق. بينما يسعى الحزب القومي السوري إلى إقامة سوريا الكبرى التي تضم الشرق العربي كله بما فيه العراق والكويت وعربستان وقبرص وأجزاء من تركيا وصحراء سيناء. أما شريف مكة فكان يريد مملكة عربية تضم اليمن والجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام.

وحتى لا نذهب بعيداً في التأريخ، أنظروا إلى تفكير قادتنا المتأخرين. جمال عبد الناصر لم يكتف بحكم مصر بل أراد الأمة العربية كلها وأقام وحدة مع سوريا التي لا يربطه بها رابط غير اللغة والدين، فالجغرافيا والاقتصاد والتاريخ والثقافة والسياسة كلها مختلفة ومتفاوتة. والقذافي توج نفسه ملك ملوك أفريقيا بعد أن فشل في إقامة الوحدة مع مصر وتونس كنواة لوحدة الأمة بأكملها (ولا تسألوا عن أي أمة كانت ببال القذافي لأنه غير رأيه عدة مرات حول الموضوع). 

وطموح صدام حسين لم يتوقف عند حدود العراق المترامية بل سعى إلى (توحيد) الأمة بالقوة فاحتل الكويت وبعض أجزاء من إيران والسعودية وأغرى الفقراء العرب بـ “توزيع” الثروة النفطية على الجميع بالتساوي، مع أنه لم يوزعها أصلاً في العراق بل أنفقها على الحروب والتسلح والتجسس. أما بشار الأسد فقد ورث عن أبيه زعامة الأمة العربية والأمانة العامة لحزب البعث (العربي الاشتراكي) الذي يسعى إلى إقامة (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، ولا نعرف ما هي هذه الرسالة وكيف تكون (خالدة)!

مثل هذه الطموحات الموغلة في الخيال والطوباوية لا يمكن تحقيقها إلا عبر الغيبيات والمعجزات ولهذا السبب فقد نمت في صفوفنا الأحلام الخيالية فصرنا نصدق مخيلاتنا التي أطلقنا لها العنان وتوهمنا أن بالإمكان تحقيق هذه (الطموحات) غير المشروعة والأهداف غير قابلة التحقيق.

لو كنا قد اهتممنا بالإنسان وكيفية تطويره عبر التعليم والعمل المثمر ضمن الامكانيات المتاحة لكنا اليوم كباقي دول العالم نمتلك اقتصادات قوية ومتفاعلة وطبقة عاملة نشيطة وطبقة وسطى فاعلة وأصبحت لدينا حصة في التجارة العالمية (خارج المصادر الطبيعية) وكنا قد ساهمنا في التطور العلمي والتقني الذي يسود العالم.

نحن قوم نبحث عن أمجاد متخيلة وبسبب غموض المستقبل فإننا نريد العودة إلى الماضي لأنه الشيء (الجميل) الوحيد الذي نمتلكه، وهذا لن يحصل لأن اتجاه مسيرة الزمن واحد وهو إلى الأمام فقط. الواقعيون منا، تمكنوا من بناء دول مستقرة تمتلك اقتصادات حقيقية ولديها شعوب تفكر بشكل صحيح وتبني قدراتها بشكل تدريجي، أما الطوباويون فقد عانوا في السابق وسوف يستمر أبناؤهم وأحفادهم في المعاناة لأن (اليوتوبيا) التي يبحثون عنها موجودة في الخيال فقط، وهم بحاجة لأن يخرجوا من أبراجهم العاجية ويتخلوا عن أفكارهم الطوباوية ويتعلموا أن الحياة تتطلب أن يكون الإنسان واقعياً ويعمل وفق إمكانياته المتاحة حالياً، والتي بإمكانه أن ينميها بالعلم والعمل، ويتخلى عن الأوهام التي لن تأتي عليه إلا بالخيبة والإحباط.
حميد الكفائي