الحياة ٢١ أبريل ٢٠١٣

عادة ما تلجأ البلدان الديموقراطية إلى تشكيل حكومات ائتلافية أثناء الأزمات، ولكن في بلداننا يحصل العكس فيزداد الاستقطاب وتسعى الأطراف المختلفة إلى استغلال الفرص لتحقيق المكاسـب الوقتية على حساب المصلحة العامة 

لا شك أن العمل السياسي يعتمد دائماً على إضعاف الخصوم وانتهاز الفرص المتاحة أو خلقِها من أجل الوصول إلى السلطة، لكن هناك حدوداً لهذه الانتهازية، إذا تجاوزتها تتحول إلى عقبة ومصدر أذى وضرر للجميع وأولهم ممارسوها، لأن العمل السياسي عموماً، والديموقراطي خصوصاً، يعتمد على سمعة المتصدين للقيادة وثقة الناس بهم 

وللأسف، لا تزال الثقافة السياسية ضعيفة في مجتمعاتنا بسبب إهمال حكوماتنا المتعاقبة للعلوم السياسية، بحسب رأي الشيخ علي عبد الرازق، مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم». لدينا سياسيون يمارسون أقصى حدود الوقاحة، ويتوقعون من الناس أن تتقبلهم وترضى عنهم بل وتصوّت لهم.

أحد السياسيين في العراق دينَ بسرقة المال العام وهرب، لكنه مع ذلك شكل قائمة انتخابية وسعى إلى الوصول إلى السلطة على رغم كونه هارباً في الخارج. سياسي آخر طرد من موقعه بسبب تورطه بفساد، لكنه عاد بعد فترة قصيرة إلى الحياة العامة وكأن شيئاً لم يكن. سياسي ثالث هرب من السجن بعد إدانته بالفساد، لكنه شُمِل بقانون العفو العام فعاد إلى العمل السياسي من دون حياء… سياسي رابع أقيل بسبب الفساد لكنه اعتبر تلك الإقالة «استقالة»، وادعى أنها كانت احتجاجاً على كذا وكذا وترشح للانتخابات 

مثل هذه الأمور لا يحدث في الدول الراسخة اجتماعياً وسياسياً. المرشح الرئاسي الديموقراطي الأميركي في انتخابات ١٩٨٤، غاري هارت، انسـحب من السباق بعدما برهنت وسـائل الإعلام زيف ادعاءاته بخلو تاريخه من أي عمل غير أخـلاقي، فكـشـفت علاقة سـرية لـه مـع فنانة معروفة وجاءت بها لتعترف بذلك علناً 

وزير الداخلية البريطاني في عهد توني بلير، ديفيد بلونكت، استقال من مناصبه الحكومية والحزبية بعدما تدخل مكتبه للتسريع في معاملة استقدام خادمة إلى منزله من بلد آخر، واعترف بلونكت بأنه ارتكب خطأ إذ كان عليه أن ينتظر دوره كما يفعل الآخرون ولا يستغل منصبه لتسهيل أموره الشخصية. وزير التجارة والصناعة البريطاني، بيتر ماندلسون، استقال لأنه لم يخبر البنك الذي اقترض منه مبلغاً لشراء منزله أنه اقترض أيضاً من صديق له جزءاً من كلفة المنزل! أما اللورد كارينغتون فاستقال من منصب وزير الخارجية لمجرد أنه أخفق في أن يعرف عن غزو الأرجنتين جزر فولكلاند قبل حدوثه 

الوعي الشعبي هو الذي يرفع سقف الحدود الأخلاقية التي يمارسها السياسيون، كما أن الدقة والأمانة الإعلامية تساهمان في رفع ثقة الناس بالمعلومات المتوافرة عن السيـاسيين والمسؤولين. الآن، هناك وسائل إعلام تـمارس الافتراء على الآخر بهدف تشويه سمعته، وهذا عمل لا يمت إلى الإعلام بصلة. مثل هذه الأفعال جعل الناس لا تـصدق كل ما يـقال عن هـذا وذاك، وجعل حتى المسيئين والفاسدين يجرأون على ادعـاء أن ما يـقال عنهـم هو محض كذب وافتراء 

الانتخابات البرلمانية في العراق على الأبواب ولم يبقَ أمامها سوى عام أو بعض عام، وهذه المدة لا تكفي حتى للإعداد والتخطيط الجيد للحملة الانتخابية التي تحتاج دراسات معمقة لإعداد برامج انتخابية، تعالج مشاكل البلد وتستقطب اهتمام الناخبين. وعلى رغم قصر الفترة المتبقية وتدهور الوضع الأمني الناتج من الأزمة السياسية، بين أسباب أخرى، لا يزال بعض الأحزاب والشخصيات المعارضة يسعى إلى إسقاط الحكومة أو إضعافها كي يبرهن على صحة نظريته القائلة إن الحكومة غير كفء وهناك حاجة لتشكيل أخرى، ومن أجل إضعاف فرص الأحزاب التي تقودها في الفوز في الانتخابات المقبلة عبر إعاقة عملها وعدم تمكينها من إنجاز أي شيء مفيد 

لو ركز الخصوم جهودهم على تعزيز مواقعهم بين الناخبين والإعداد الجيد للانتخابات المقبلة لكانوا استفادوا أكثر بكثير من محاولات إسقاط الحكومة وتعطيل عملها والتي يمارسونها من دون جدوى منذ تشكيلها. الأحزاب التي تقود الحكومة لا تسعى إلى كسب مواقع جديدة بين الناخبين من خلال التشاور مع المعارضة في الشؤون العامة، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية ومكافحة الإرهاب والفساد والجريمة المنظمة. غياب الواقعية في التفكير السياسي عند قادة الحكومة والمعارضة أوصل العملية السياسية إلى طريق مسدود، ووضع العراق في مهب الريح 

هناك مشاكل مستعصية تستدعي جهوداً مشتركة يبذلها القادة جميعاً. لكن تفكير الحكومة أيضاً يعاني الانسداد بسبب غياب ثقافة الشراكة مع الآخر، والاعتماد على مستشارين لا يمتلكون الخبرة أو سعة الأفق المطلوبة للحكم 

مَنْ في الحكومة يعتقد بأن القرار يجب أن يكون في يده وحده وأن استشارة الآخرين تعني تنازلاً عن الصلاحيات «التي منحه إياها الدستور»! لكن الأمر ليس هكذا، فالصلاحيات تبقى في أيدي الحكومة واستشارتها الآخرين لن تنتقص منها. مساهمة كل الأطراف السياسية المهمة في تقرير مستقبل البلد، ورفد الحكومة بالأفكار قبل اتخاذ القرارات الحاسمة، ضروريان وقت الأزمات كي ينسجم الجميع مع سياسة الدولة 

قد تتحسن الأوضاع في بلداننا إن أقدم الممسكون بزمام الأمور على عمل جريء، يتضمن تشريع قوانين عصرية تسري على الجميع من دون تمييز، وتسمح لهم بالعيش بحرية وأمان وفق القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان. قوانين تعاقب المتجاوز وإن كان من أحزاب السلطة، وتحمي المظلوم وتعيد إليه حقوقه وإن كان من الخصوم والمعارضين. لكن وضعاً كهذا يبدو بعيد المنال حالياً، فالممسكون بزمام أمورنا غير مستعدين حتى للاستماع إلى الرأي الآخر، ناهيك عن الأخذ به، خصوصاً إذا جاء من خصومهم أو منافسيهم 

تطبيق القانون ومبادئ العدالة على الجميع من دون تمييز، أساس قيام الدولة الحديثة، وما دامت دولنا بعيدة عن ذلك سنبقى نعيش في كيانات نسميها دولاً لكنها في الحقيقة تجمعات سكانية يخضع معظمها لحكم العصابة الأقوى 

http://alhayat.com/Details/505280