الأربعاء 10 ابريل 2013
 
في التاسع من نيسان الجاري مر على سقوط نظام صدام حسين عشر سنوات بالتمام والكمال. ففي اليوم نفسه من عام ٢٠٠٣ سقط النظام تحت ضربات الآلة العسكرية الأمريكية في وقت لم يدافع عنه الجيش ولا الشعب ولا حتى حزب البعث الذي أرهب العراقيين لأكثر من ثلاثة عقود. وفي صباح ذلك اليوم قامت دبابة أمريكية بإزالة تمثال صدام من ساحة الفردوس بعد أن عجز عن ذلك الشباب العراقيون الذين حضروا إلى الساحة.

ما الذي تغير في العراق بعد مرور عشر سنوات على ذلك التغيير الهائل؟ أشياء كثيرة حصلت، إيجابية أو سلبية، حسب وجهات النظر المختلفة. فقد انفتح العراق على العالم الخارجي لأول مرة منذ خمسة عقود، وجاءته الحضارة مرة واحدة، من القنوات الفضائية والإذاعات والجرائد إلى شبكات الهاتف المحمول وخدمات الإنترنت المتنوعة إلى البضائع الاستهلاكية والأجهزة المتطورة. كما تطور اقتصادياً وانفتحت أسواقه أمام دول العالم فجاءته البضائع من كل البلدان، المجاورة منها والنائية، وأخذ يستورد حتى الفواكه والخضار التي كان يصدرها يوماً قبل الفورة النفطية وانشغال شعبه بالحروب الداخلية والخارجية. لكن حدوده اصبحت مستباحة منذ عام ٢٠٠٣ ودخلتها المنظمات الإرهابية من مختلف أصقاع الأرض لتعمل “في سبيل الله” على أرضه فتقتل أبناءه وبناته فرادى وجماعات وتفجر أسواقه وشوارعه ومساجده‪.‬
‪ ‬
هل كان التغيير مجرد انفتاح إعلامي واتصالي على العالم وتجمع للإرهابيين لمحاربة الجميع؟ بالتأكيد لا. فالتغيير جاء أيضا بنوع من الديمقراطية التي مازالت تتصارع مع ثقافة الاستبداد بالسلطة وإلغاء الآخر السائدة منذ عقود أو ربما قرون. الجماعات العراقية التي وصلت إلى الحكم منذ التغيير تتصارع في ما بينها على “الكعكة” ولم تتوصل إلى طريقة سلمية لتقاسمها حتى الآن‪.‬
‪ ‬
الدستور العراقي الذي كتب في عجالة عام ٢٠٠٥ أصبح يُفسَّر حسب ما تريده كل جماعة. ولا غرابة في ذلك فإن الذين كتبوه قد وضعوا كل تناقضاتهم فيه مدركين هذه التناقضات كل الإدراك لكنها كانت وسيلتهم الوحيدة لتأجيل خلافاتهم ومعاركهم إلى المستقبل. وقد اندلعت تلك المعارك منذ العام الأول لكتابة الدستور وما تزال مستعرة حتى هذه اللحظة‪.‬ لقد كانت صياغة بعض الفقرات ملتبسة ربما بشكل مقصود كي تقفز فوق الخلافات العميقة بين الأطراف لتتيح لها أن تفسرها حسب مرادها. 
‪ ‬
حاول الأمريكيون أن يؤثروا في المشهد السياسي العراقي ودعموا بعض الجماعات السياسية التي تعاملت معهم منذ مطلع التسعينيات لكن جماعات الإسلام السياسي كانت أكثر تنظيماً ومعرفة بالمجتمع العراقي وكيفية “إقناعه” بالتصويت لها، وأقوى تصميماً على النجاح من الجماعات العلمانية المتنافسة التي تعمل ضد بعضها البعض، بل وتحالف بعضها مع الأحزاب الدينية ضد خصومه العلمانيين‪.‬ ولم تعد الخلافات حكراً على العلمانيين فقد عصفت بالإسلاميين أيضاً، حتى من أبناء الطائفة الواحدة. 
‪ ‬
‪ ‬لقد نجحت الأحزاب الدينية، على رغم خلافاتها، في تنظيم نفسها وتوحيد صفوفها والفوز في الانتخابات حسب قواعد اللعبة التي وضعها الأمريكيون وفق جدول زمني لم يكن ملائماً لظروف العراق الملتهبة في تلك الفترة، بل كان أكثر ملاءمة لأجندة الإدارة الأمريكية الداخلية التي كانت تريد إقناع الناخب الأمريكي بأن هناك تقدماً يحصل في العراق ولا يهم إن كان هذا التقدم حقيقياً أم ظاهرياً، فالمهم هو الحديث عن تقدم في تحقيق الديمقراطية.

وفي نيسان ٢٠٠٥ اضطر رئيس الوزراء المؤقت آنذاك، إياد علاوي، إلى تسليم السلطة إلى الفائزين الجدد. لكن الخلاف في صفوف التحالف الشيعي-الكردي قد دب من جديد بعد أقل من عام على تلك التجربة، فاعترض الكرد وبعض أطراف الإئتلاف الشيعي على مرشح كتلة الإئتلاف الشيعي الفائزة في الانتخابات لرئاسة الوزراء، إيراهيم الجعفري، الذي لم يثقوا بخططه لتنفيذ المادة ١٤٠ حول كركوك، ما اضطر كتلته إلى استبداله بنوري المالكي الذي صمد في السلطة منذ ذلك الحين على رغم المصاعب الجمة التي واجهها ويواجهها حالياً.

لقد حقق الكرد، بمساعدة فصيل سياسي شيعي، مكاسب كثيرة بعضها غير قابل للديمومة، لكن بعض ما اعتبر مكسباً حينها قد تحول إلى عائق لتعديل الدستور وتفسير نصوصه مثل شرط “عدم معارضة ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات لأي تعديل دستوري” والذي جعل تعديل الدستور أمرا شبه مستحيل. 
‪ ‬
الديمقراطية العراقية ما تزال على السكة على رغم الصعوبات الكثيرة التي تعترضها باعتبار أنها كائن غريب على المجتمع ويحتاج إلى رعاية كي ينمو ويشتد عوده. فهناك بين العراقيين من لم يقتنع أصلا بالنظام الديمقراطي، حتى من بين المستفيدين منه، وهناك من يرغب في البقاء في السلطة حتى خارج الضوابط الديمقراطية وهناك من يعتقد أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية وإذعان الآخرين لرغبات وأهواء قادتها في كل شيء باعتبارهم فائزين في الانتخابات، وهناك من يحاول إضعاف النظام السياسي لأنه لم يحقق طموحه في الوصول إلى قمة السلطة، وهناك من يرغب في هدم النظام من أساسه بحجة أنه نشأ في ظل احتلال، متناسياً أن النظام الذي كان قبله قد نشأ هو الآخر في ظل احتلال بريطاني مباشر دام ما يقارب العقدين من الزمن (١٩١٤-١٩٣٢) وإشراف “أبوي” استمر لعقدين آخرين. 

وهناك من يحن إلى زمن النظام السابق متوهماً أن بالإمكان إعادته أو إنشاء نظام شبيه به يرعى البعض على حساب البعض الآخر‪ ‬المختلف سياسياً أو قومياً أو طائفياً.
‪ ‬
‪ ‬لكن الحقيقة هي أن العراق قد تغير إلى الأبد ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لإقامة نظام دكتاتوري أو غير ديمقراطي لأن ذلك، إن رأى النور، فلن يصمد طويلاً، فقد تغير النظام الدولي ومعه تغيرت طبائع الشعوب في كل أنحاء الأرض بسبب العولمة وتطور وسائل الاتصال والإعلام وانتشار الوعي بحقوق الإنسان وتداخل مصالح وسياسات الدول والشعوب ببعضها البعض. لم يعد هناك مكان لمن يروج للزعيم الأوحد والقائد الضرورة، لا في العراق ولا في أي بلد آخر في العالم، والأفضل للجميع هو الرضوخ لمبادئ الديمقراطية والعمل وفق القانون والدستور والقبول بنتائج صناديق الاقتراع.
‪ ‬
نعم، النظام الديمقراطي لا يأتي دائما بالسمن والعسل أو يعبد الطرق بالورود ويحقق طموح الجميع، لكنه كما قال تشرشل، الأقل سوءا بين الأنظمة الأخرى لأنه يفسح الطريق للنظام السياسي لتجديد نفسه سلميا‪.‬ العراق بلد غني بثرواته الطبيعية والبشرية وهو يتسع لضعفي سكانه الحاليين وبإمكان الجميع أن يعيشوا بكرامة وحرية ورخاء لو أن قادته السياسيين أدركوا أن التغالب يضرهم جميعاً والتعايش هو السبيل الوحيد للاستقرار والحياة الكريمة.

 
http://www.24.ae/Article.aspx?ArticleId=13278