الخميس 21 فبراير 2013 / 10:34
منذ صدور قانون “اجثاث البعث” في عهد الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر عام 2003، والقانون يستخدم ضد الخصوم، سياسيين كانوا أم مهنيين، والسبب هو أن منفذيه سياسيون وليسوا قضاة.

لاحقاً اعترف بريمر أنه أخطأ في إيكال تنفيذ القانون إلى سياسيين وكان الأجدى به أن يوكله إلى قضاة. إلا أن القانون الذي ما زال السياسيون يمسكون به، قد استخدم أخيراً لإزالة كبير القضاة، رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي مدحت المحمود، الذي اتهمته هيئة “المساءلة والعدالة” بالارتباط بالنظام السابق.

الارتباط بالدولة لا بالنظام
لا شك أن المحمود كان مرتبطاً بنظام الدولة العراقية باعتباره قاضياً ضمن السلطة القضائية، بل كان رئيساً لمجلس شورى الدولة، وهو من هذه الناحية مرتبط بالدولة التي أدارها صدام حسين وحزب البعث لخمس وثلاثين سنة، حاله حال ملايين العراقيين الذين كانوا يعملون في مؤسسات الدولة.

لكن السؤال الأهم هو لماذا يُستهدف المحمود بعد مضي عشر سنوات على إنشاء هيئة اجتثاث البعث، التي تغير اسمها إلى “هيئة المساءلة والعدالة” منذ 2008؟ ألم تكن الهيئة على علم بتاريخه المهني؟ أم أن قرارها سياسي، كما هو حال العديد من قرارات هذه الهيئة المثيرة للجدل؟

لقد استهدفت هيئة المساءلة والعدالة منذ إنشائها الناس لمجرد تبوّئهم منصباً في الدولة في عهد النظام السابق، حتى وإن كان صغيرا، أو لانتمائهم السياسي الذي لم يكن كثيرون منهم مخيرين فيه حسب ما ورد في الأسباب الموجبة لقانون المساءلة والعدالة. الكل يعلم أن حزب البعث كان يجبر الناس على الانتماء إليه، أو يضطرهم إلى ذلك بطرق شتى.

وحتى وإن كان البعثيون ممن انتموا إلى الحزب طوعاً وعن إيمان بأفكاره فقد كان ذلك من حقهم حينها لأن الحزب لم يكن محظوراً، وهم لم يرتكبوا مخالفة قانونية آنذاك في انتمائهم إليه، وليس هناك قانون منصف في الدنيا يمكن أن يدين أو يعاقب شخصاً قام بعمل غير ممنوع في وقته.

كما لا يمكن أن يُعاقَب المرؤوس على تنفيذ أوامر تلقاها من رؤسائه، لأن جزاء عدم التنفيذ في عهد النظام السابق هو السجن أو الإعدام. نعم، من الضروري جدا أن يُستبعَد مرتكبو الجرائم والمخالفات الكبيرة عن المواقع القيادية في الدولة، ويقاضَوا حسب القانون على ما ارتكبوه، لكن الاستهداف لمجرد الانتماء السياسي أو تولي المناصب ليس عادلاً.

مواقف تمليها المصالح
كثير من قرارات الهيئة خلال السنوات العشر المنصرمة كانت بدوافع سياسية، وقد اضطرت الحكومة أو البرلمان للتدخل مرات عدة لتصحيح أخطائها أوالتوصل إلى اتفاقات معها، كما حصل في أول جلسلة للبرلمان العراقي في كانون الأول / ديسمبر 2010 عندما صوت البرلمان على إلغاء قرار الهيئة السابق بشمول السياسيين صالح المطلك وعدنان الجنابي وظافر العاني بالعزل السياسي والمنع من الترشح في الانتخابات.

كما اُتخذت بعض القرارات المبنية على معلومات خاطئة أو غير مدروسة، على ما حصل عندما منعت الهيئة القاضي سعيد الهمّاشي من تولي رئاسة المحكمة الجنائية العليا بحجة انتمائه لحزب البعث والذي اتضح لاحقا أنه عارٍ عن الصحة.

اللافت هذه المرة، أن قرار الهيئة بشمول القاضي مدحت المحمود بإجراءاتها قد حظي بتأييد خصوم الهيئة السابقين في القائمة العراقية الذين طالما استنكروا قرارات الهيئة سابقاً وكانوا من ضحاياها ومعارضيها الأشداء. فهل يا ترى غيَّر هؤلاء موقفهم من قانون المساءلة والعدالة والهيئة التي تنفذه؟ أم أن قرارها الأخير كان ملائماً لمصالحهم فتخلصوا من خصم طالما عارضوا قراراته وأحكامه واعتبروها مسيسة ومنحازة للحكومة؟

خلافاتهم جعلته حكماً
ليس خافيا أن القاضي مدحت المحمود لعب دورا أساسيا في حل النزاعات السياسية خلال السنوات السبع الماضية، فقد لجأ إليه السياسيون في كل صغيرة وكبيرة اختلفوا عليها، وهم الذين وضعوه في موقعه المؤثر هذا، فلو لم يحكِّموه بينهم لما كان بهذا التأثير الذي غيَّر وجهة الحكومة وشكلها.

ففي الحكم الذي أصدره المحمود بعد انتخابات عام 2010، والذي سمح بتشكيل الكتل السياسية بعد الانتخابات، خلافاً للفهم السائد للدستور آنذاك وهو أن تشكيل الكتل يتم قبل الانتخابات، فقد تمكن المحمود من نقل السلطة فعليا من زعيم الكتلة الأكثر عددا في البرلمان (91 مقعدا)، رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي، إلى زعيم ثاني أكبر كتلة (89 مقعدا) رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، الذي تمكن بموجب هذا الحكم من تشكيل كتلة كبيرة هي التحالف الوطني (159 مقعدا).

وقد تسبب ذلك القرار المثير للجدل في تأجيل تشكيل الحكومة لمدة تسعة أشهر، حتى رضخت القائمة العراقية في النهاية لحكمه وقبلت بتولي نوري المالكي رئاسة الوزراء وفق اتفاقية أربيل.

لقد خلقت قرارت المحمود وموقعه القضائي الرفيع أعداء كثيرين له، فقد اغتيل نجله الوحيد، أحمد، عام 2006 على أيدي الجماعات الإرهابية، وهاهو الآن يدفع ثمن قراراته عبر استهداف هيئة المساءلة والعدالة له في بلد أصبحت صفته الغالبة ملاحقة أبنائه جميعاً، فلم يعد هناك أحد في مأمن من “القانون” الذي لم يعد أحد يعرف تفسيراته الدقيقة، إذ أصبح يُفسر حسب مصالح وأهواء الكتل السياسية وأتباعها.

هيبة القضاء في خطر 
لم يسلم حتى الآن إلا القليل من المسؤولين الحاليين والسابقين من الإجراءات القضائية، من رئيس هيئة النزاهة الأول، القاضي راضي الراضي، إلى رئيس هيئة النزاهة الأخير القاضي رحيم العكيلي، مرورا بمحافظ البنك المركزي سنان الشبيي، ونائبه مظهر محمد صالح، ورئيس هيئة دعاوى الملكية المحامي أحمد البراك، الذي يقضي حكماً بالسجن لمدة ثلاث سنوات لمجرد حدوث خطأ إداري قابل للاصلاح في الهيئة التي كان يرأسها، وليس انتهاء بوزراء ومسؤولين كبار آخرين، منهم من يستحق العقوبة التي أنزلت به ومنهم من لا يستحقها. وفي الوقت نفسه، فقد الغيت أحكام قضائية وأعفي متجاوزون على الحق العام عبر صفقات سياسية.

التلاعب بالقانون والدستور لأسباب سياسية أو شخصية لن يبني دولة مستقرة، فأحد شروط بناء الدولة الحديثة هو وجود بيئة قانونية راسخة يعرف فيها الجميع، مواطنين وأجانب، حقوقهم وواجباتهم ويطمئنون لسلامة قرارات السلطة القضائية.

في الولايات المتحدة، حسمت المحكمة العليا عام 2000 الخلاف حول نتيجة الانتخابات الرئاسية لصالح المرشح جورج بوش، على رغم أن منافسه، نائب الرئيس السابق، أل غور، كان متفوقا عليه في عدد أصوات الناخبين في عموم البلاد بأكثر من نصف مليون صوت. لقد قَبِل غور القرار على الفور، على رغم أنه وملايين من أنصاره، كانوا يشعرون بالغبن في قرارة أنفسهم، لكن الأهم من حق غور في الرئاسة هو الخضوع لقرار السلطة القضائية، حتى وإن بدا قرارها خاطئاً في نظر المتأثرين به، لأن احترام سلطتها يرسِّخ استقرار البلد ومؤسساته ويعزز الثقة بالنظام السياسي ككل.

وحتى يفهم السياسيون ضرورات ومقومات الدولة الحديثة، سيبقى العراق بلدا قلقا لن يرضى فيه المحكوم على الحاكم ولا ينال فيه الحاكم ثقة المحكوم.

http://www.24.ae/Article.aspx?ArticleId=6110