الحياة-الثلاثاء ١٩ شباط/فبراير ٢٠١٣

عندما بدأت الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كان السياسيون المعارضون لرئيس الوزراء نوري المالكي، من وزراء ونواب، في مقدمها. فهم من أشعلها وحرض عليها وقادها أو ساندها، فعلياً أو رسمياً، لكنهم وبعد مرور ثمانية أسابيع أصبحوا أسرى لها.

فهم من ناحية لا يستطيعون إيقافها أو حتى التأثير فيها، ومن ناحية أخرى غير قادرين على التخلي عنها والعودة إلى الحكومة التي تدار الآن في غيابهم. فإن عادوا من دون رضا جماهيرهم فإنهم يخاطرون بفقدان شعبيتهم بين أتباعهم الذين هبوا لنصرتهم واتبعوا توجيهاتهم بالتظاهر والاحتجاج، وإن انتظروا حتى النهاية فإن انتظارهم قد يطول وفي هذه الأثناء يكونون قد تخلوا طوعاً عن دورهم لخصومهم. إنهم حقاً في مأزق وربما يشعرون بندم على إشعال فتيلها.

وعلى رغم أن الحكومة غير مرتاحة لهذه الاحتجاجات، التي لا نهاية لها في الأفق على ما يبدو، خصوصاً مع وجود توجه لنقلها إلى بغداد، إلا أنها سعت لتلبية مطالب المتظاهرين وقدمت بعض التنازلات المهمة لهم ومنها إطلاق سراح ثلاثة آلاف معتقل ممن لم تثبت عليهم التهم الموجهة لهم عند اعتقالهم، بمن فيهم عدد من النساء، وكذلك إلغاء الاعتماد على إفادات المخبر السري في إصدار مذكرات القبض على المتهمين أو استخدمها كأدلة في المحاكم، إضافة إلى زيادة رواتب أفراد الصحوة، البالغِ عددهم 41000 شخص، الذين يضطلعون بمهمات أمنية فاعلة ويتصدون لتنظيم «القاعدة» والجماعات الإرهابية في مناطقهم.

إلا أن المتظاهرين، الذين أصبحت لديهم الآن قيادات أخرى، دينية وعشائرية، بعضها متطرف ولا يجيد القيادة بل يسعى نحو التصعيد، لم يلينوا حتى الآن في احتجاجاتهم بل أخذوا يرفعون من سقف مطالبهم ويتشددون في خطاباتهم، على رغم أن النبرة الطائفية التي لوحظت في البداية عند بعضهم خفّت كثيراً في معظم المناطق، خصوصاً مع التعاطف الذي أبداه عدد من رجال الدين الشيعة مع مطالبهم والتأييد الذي حظيت به احتجاجاتهم من قبل الكثير من عشائر الجنوب الشيعية. فعشائر العراق ما زالت متماسكة على رغم اختلاف المذاهب والمناطق، وعلاقتها وطيدة وشيوخها موحدين ولم تفرقهم المذاهب الدينية.

لكن عفوية التظاهرات وتبوؤ بعض العناصر المتطرفة مراكز القيادة والتحدث باسم المتظاهرين منعاهم من التوصل إلى اتفاق عملي مع الحكومة يحققون فيه مكاسب حقيقية وينهون بموجبه احتجاجاتهم التي أثرت سلباً في الحياة في محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين، وشغلت مؤسسات الدولة والرأي العام في عموم العراق.

كان بإمكان المتظاهرين أن يتفاوضوا مع الحكومة، مباشرة أو عبر وسطاء، لإنهاء اعتصامهم، خصوصاً بعد أن أبدت رغبة في تلبية مطالبهم واعترفت ببعض الأخطاء المرتكبة بحقهم ووعدت بتصحيحها. استمرار الاحتــجاجات إلى ما لا نهاية لن ينفعهم بشيء بل سيفــقدهم الكثير من التعاطف الذي كسبوه في صفوف الحكومة وباقي شرائح المجتمع العراقي بعد أن اتضــح أن بعــض ما قالوه بوجود معتــقلين من دون مذكرات اعتقال قضائية صحيح، وأن هناك أخطاء كثيرة وقعت عليهم.

لكن هناك حدوداً للتنازلات والمكاسب التي يمكن أن يحــصلوا عليها، فمن ناحية ستضــطر الحكومة للتعامل مــعهم أمنياً إن شكلت احتجاجاتهم عائقاً أمام عجلة الدولة والمجتمع، أما إذا بقيت على شــاكلتها الحالية فإنهم سيتــعبون وسيتــفرقون بمرور الزمن فكل شيء له حدود. لقد أوصلوا رسالتهم إلى الجميع وهناك الآن جدية في التعامل مع المشاكل التي طرحوها والتي لا تقتــصر على منطقة أو طائفة دون أخرى.

إنهم يتوهمون إن تصوروا أن هذه الأخطاء تقتصر على مناطقهم فحسب. قبل أيام التقيت بأحد أبناء الجنوب ممن أثق بهم وروى لي قصة غريبة عن اعتقال ثم إدانة شخص مسن في الناصرية لمجرد أن الشرطة عثرت على (قنبلة) قديمة مهترئة بين معداته التي يستخدمها في عمله، وهذه (القنبلة) الصغيرة المصنوعة محلياً كانت تستخدم لصيد الأسماك من الأنهر، وهذه ممارسة كانت سائدة سابقاً على رغم أنها محظورة رسمياً لأنها تتسبب في قتل الأسماك الصغيرة والكبيرة معاً، إضافة إلى تلويث المياه وقتل الأحياء المائية الأخرى. وأدانته المحكمة بحيازة سلاح قاتل وهو الآن يقضي حكماً لسنوات عدة بالسجن على رغم أن الجميع، بمن فيهم الشرطة، يعلمون أن الرجل لا علاقة له بالإرهاب من قريب أو بعيد.

من يحتك بالناس العاديين يرى أن هناك الكثير من هذه القصص وهي ليست بالضرورة مقصودة أو موجهة ضد طائفة أو منطقة بعينها بل هي أخطاء يرتكبها بعض أفراد القوى الأمنية إما لقلة الخبرة أو لفرط الحماسة في أداء الواجب أو لعدم وجود الرقابة من الجهات التشريعية والإعلامية أو ربما لمركزية اتخاذ القرار بحيث إن القيادات الأمنية الدنيا لا تستطيع إطلاق سراح المعتقلين على رغم أنها هي التي اعتقلتهم ابتداء وأحالتهم إلى المحاكم وفق المادة 4 إرهاب، التي يطالب المتظاهرون بإلغائها.

وسبب المطالبة بإلغاء المادة هو أنها لا تدين مرتكبي أعمال الإرهاب فحسب، بل كل من تواطأ معهم أو علم بأمرهم ولم يخبر السلطات الأمنية، حتى من النساء من أفراد عائلاتهم، وهنا تكمن الإشكالية، لأن من الصعب على الأقارب، خصوصاً النساء، في مجتمعاتنا أن يخبروا السلطات عن المسيئين من أقاربهم لأسباب اجتماعية وعشائرية، حتى مع إدراك الجميع أن الدولة والمجتمع لهما الحق على المواطنين جميعاً في أن يتعاونوا مع الشرطة لكشف الجريمة حتى وإن كان مرتكبوها من الأقارب والأصدقاء.

الأزمة التي بدأت كاحتجاج على اعتقال بعض أفراد حماية وزير المالية، أصبحت الآن حركة احتجاج واسعة على رغم أنها انحصرت في مناطق ذات صبغة مذهبية معينة ما أعطاها صفة طائفية، لكن هذه الحركة تسير من دون أهداف واقعية تسعى لتحقيقها وهنا تكمن خطورة استمرارها. إن لم يقتنع منظموها وقادتها الجدد بما تحقق لهم من مكاسب فإنهم يخاطرون بإفشالها وجر البلد نحو هاوية الانقسام والحرب الأهلية.

لقد آن الأوان لأن تتوقف حركة الاحتجاج هذه كي تتمكن الحكومة من تصحيح الأخطاء التي ارتكبت وترتكب بحق الأبرياء باسم محاربة الإرهاب. ليس هناك من يعارض محاربة الإرهاب، خصوصاً من أبناء المناطق التي اكتوت بناره، لكن محاربته يجب أن تكون وفق خطة علمية مدروسة تنفذها قوى مدربة ومهنية وذات خبرة، وليس من خلال جعل المجتمع والدولة مختبراً لتجارب بعض مسؤولي الأمن من قليلي الخبرة أو ممن تسيِّرهم دوافع بعيدة من المهنية.

http://alhayat.com/OpinionsDetails/484375