كان أستاذ العلوم السياسية في الجامعة يشرح لنا ذات يوم معوقات التطور الاجتماعي وحاجة الشعوب إليه وكيف أن المحافظين في كل المجتمعات يستخدمون شتى الوسائل لتعطيل التطور وإبقاء الأمور كما هي لأنهم دائما يخشون الجديد ويتمسكون بالقديم والمألوف. وكان دائما يقول إن العالم ما كان ليتطور كما نراه الآن (وعندها لم نكن قد سمعنا بالإنترنت والهاتف المحمول والفضائيات) لو تمكن المحافظون من فرض آرائهم وطرق حياتهم على الآخرين.

وكان الطلاب يناقشون الأفكار التي يأتي بها الأستاذ ويأتون أيضا بأمثلة وآراء من تجاربهم، وكل حسب ثقافته ومعلوماته ومدى إطلاعه، فبعضنا كان يمضى معظم وقته في القراءة والمطالعة بينما يخصص آخرون بعض الوقت لأمور الترفيه والتواصل الاجتماعي. كنت عادة استعين بأمثلة من التأريخ العربي لدعم ما أطرحه من آراء في الدرس وأناقشه مع الأستاذ.

وذات يوم استعنت بجزء من خطبة الإمام علي المسماة بالشقشقية (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيت حبلها على غاربها…) كدليل على أنه لا يحق للحاكم أن يحكم إلا عندما يحصل على تفويض من الشعب وهو ما أطلق عليه الإمام علي (قيام الحجة بوجود الناصر)، أي توفر الشرعية بوجود العدد الكافي من المؤيدين، وهذا هو الذي جعله يقبل بتولي الحكم بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، ولم يكن راغبا فيه. وفي مناسبة أخرى ذكرت أثناء مناقشتي مع الأستاذ أن الحكام المسلمين الأوائل لم يفرضوا أنفسهم على الناس فذاك أبو بكر الصديق (وفي بعض الروايات عمر بن الخطاب) قد قال عند توليه الخلافة (وِلِّيتكم ولست بخيْرِكم فإن رأيتم فيَّ إعوجاجا فقوموه…) وهو دليل على عدم الاستبداد بالرأي وفرض الإرادة بالقوة ويعبّر عن تواضع جم من الحاكم ومشاركة منه للرعية في الرأي واستعداد لقبول النقد، وقد كان هذا سائدا فعلا في تلك الفترة.

استمع إلي الأستاذ جيدا وبعد أن أنهيت كلامي قال: (نحن في أواخر القرن العشرين يا حميد وأنت تأتينا بأمثلة من القرن السابع! أريد أمثلة حديثة من عصرنا. إقرأ التجارب الحديثة… وتذكر أنك في القرن العشرين لا في القرن السابع!). تلك الكلمات، التي قالها الأستاذ كرد فعل عادي أثناء الدرس قبل ربع قرن، أيقظتني من نوم عميق. كنت أعتقد أن علينا أن نعيش التأريخ ونتمثله باستمرار ونتعلم منه وأن السابقين هم المؤسسون وهم بالضرورة أفضل منا جميعا، وأنهم مصدر الشرعية الوحيد وعلينا ألا نتجاوزهم باي حال من الأحوال وأن نكيِّف حياتنا كي تتلاءم مع أفكارهم ومتبنياتهم.

الحقيقة هي أن أكبر مشكلة تواجهنا حاليا هي التفريق بين الماضي كأحداث حصلت في وقتها وبين ما يجب علينا الالتزام به لمجرد أنه حصل في الماضي أو أن شخصا نحبه قد فعله، مهما كنا نكن لهذا الشخص من احترام وقدسية. الاستغراق في التعلق بالماضي يعزل الإنسان عن حاضره ويدمر مستقبله ويجعله يعيش في عالم خاص به وخارج أطار عصره، وما أكثر هؤلاء هذه الأيام.

كثيرون منا يبذلون جهودا مضنية كي يطوِّعوا الحاضر لينسجم مع الماضي وكأن الماضي طوق في أعناقنا لا يمكننا الفكاك منه وعلينا حمله أبد الدهر بكل أعبائه ومشاكله ومآسيه. كثيرون منا يعيشون في الماضي السحيق رغم أنهم يستخدمون أدوات العصر الحديث ونتاجاته في حياتهم اليومية كالكمبيوتر والإنترنت والتلفزيون والسيارة والطائرة والأجهزة الصحية والأدوية.

قنواتنا التلفزيونية لا هم لها سوى الإتيان بأشخاص لا يعرفون شيئا سوى امتلاكهم معلومات تأريخية بعضها مشوش ويجعلونهم يجيبون على أسئلة الناس الحياتية وهذا يجعل من الماضي وعاداته يعيش بيننا، ويرسِّخ كل تلك الممارسات والأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب وأصبح الكثير منها مضر ومعيق للتقدم. عدد الفضائيات العربية المخصصة لشرح أحداث الماضي وممارساته وشخصياته وأقوالهم لا يعد ولا يحصى وهي تستهلك أموالا طائلة كان يمكن أن تُستثمر في أمور أخرى أكثر نفعا.

قلما نرى وسائل الإعلام تأتي بالمفكرين وذوي الأفكار الحديثة والتجارب المتميزة كي يدلوا بدلوهم، وجل همها أن تأتي بالماضويين ليشرحوا للمتلقين كيف كان أسلافنا يعيشون ويؤدون أعمالهم. لو كنا أنفقنا عُشر ما ننفقه حاليا على توضيح التأريخ وأحداثه على شرح الأفكار الحديثة والتطورات العلمية الضروية للحياة لكنا قد نقلنا شعوبنا نقلة نوعية إلى الأمام.

واجبنا أن ننصف أجيالنا ونقدم لها فرص التعليم والتطور لا أن نبقيها أسيرة لأحداث الماضي وأفكاره وهذه مسئولية كبرى يمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دورا كبيرا في تأديتها.