هكذا وجدنا آباءنا

أثناء دراستي اللغة الإنجليزية في لندن قبل ثلاثة عقود تقريبا، طلب منا الأستاذ أن نجيب على سؤال افتراضي وهو ماذا نتمنى أن نكون لوكان لنا خيار أن نولد من جديد وأي بلد ولغة ومهنة سنختار، وكان علينا أيضا تقديم الأسباب التي دفعتنا إلى اختياراتنا الجديدة. كان الهدف من السؤال هو اختبار قدرتنا على الكتابة في اللغة الإنجليزية.

تفنن الطلاب، الذين جاءوا من بلدان العالم المختلفة، وبينهم على ما أتذكر مكسيكيون ويابانيون ويونانيون وألمان وأسبان، تفننوا في أجاباتهم فمنهم من قال إنه يتمنى لو يولد طيرا يحلق في الأعالي، وآخر تمنى لو يولد زرافة يعلو رأسه على رؤوس الأشجار في غابة جميلة في أقاصي أفريقيا، وآخر تمنى لو كان سمكة في محيط مترامي الأطراف. أحدهم اختار سويسرا بلدا والإنجليزية لغة، وآخر إنجلترا بلدا والأسبانية لغة، وثالث أفريقيا قرب منابع نهر النيل وهكذا. أما أنا فقد كانت تمنياتي لا تختلف عن واقعي، فلم اختر بلدا غير العراق أو لغة غير العربية ولم أسع للخروج عن المألوف.

وبعد أن اطلع الأستاذ، وكان اسمه (Mr Cauley)، على إجابتي قال لي: معنى ذلك أنك في غاية السعادة الآن، فأنت لا تريد أن تغير شيئا من حياتك حتى في خيالات الأماني!!! أجبت بنعم وسط ابتسامات الطلاب وقهقهات بعضهم! انتبهت لاحقا إلى إجابتي تلك وفكرت عميقا في ملاحظة المستر كولي تلك وسبب عدم رغبتي في إطلاق العنان لخيالي حتى للحظة من الزمن، كما فعل زملائي.

لقد كان ذلك الدرس الذي يفترض أنه في اللغة الإنجليزية، درسا بليغا في فلسفة الحياة، درسا لم تُنسِني إياه لاحقات مصاعبي. كانت ملاحظة عابرة من مدرس عادي، لكنها أيقظتني لحقيقة طالما جهلتها أو تجاهلتها عن ثقافتي. الحقيقة كانت مختلفة تماما، فقد كنت حين قدمت إجابتي تلك في أسوأ حال، ولم أكن قد أكملت الثانية والعشرين بعد. فالخوف والقلق يطوقانني من كل ناحية، وقد بدا لي المستقبل غامضا.

كنت قد غادرت العراق حديثا وجئت إلى بريطانيا للدراسة على حسابي الخاص، وهذا التعبير الأخير (حسابي الخاص) لم يكن ذا معنى، فلم يكن لدي حساب ولا أموال سوى ما سمح بتحويله البنك المركزي العراقي آنذاك، وهو الف دينار عراقي، أو ما يعادل ثلاثة آلاف دولار، رغم أن هذا المبلغ كان كبيرا في تلك الأيام، لكنه مع ذلك لا يكفي للعيش في لندن إلا لبضعة أشهر مع التقشف.

لم يكن لدى من كان يهمهم أمري مال يكفي للإنفاق على دراستي في بريطانيا، لكن الاضطرار لترك العراق كان السبب الحقيقي لسفري. كان كل شيء من حولي مقلقا. ارتفاع تكاليف الحياة وأجور الجامعات التي رفعتها حكومة ثاتشر المحافظة المنتخبة حديثا إلى مستويات لم تعد بمتناول الفقراء، عدم قدرتي على البقاء في بلد لا يصلح إلا للأثرياء، لكن القلق الأكبر كان من احتمال اضطراري إلى العودة إلى العراق حيث الدكتاتورية والحروب والقمع واليأس والضياع.

لم أكن أهنأ حتى في نومي في تلك الفترة، بل كنت أخشى النوم الذي لم يكن ليأتيني بغير الكوابيس لينتهي بيوم بائس جديد يزيد من قلقي وحيرتي. ومع كل هذه المقلقات من حولي، وسعيي الحثيث وجهدي المتواصل لتعلم طرق الحياة في بلدي الجديد، فإنني كتبت (سأختار العراق بلدا والعربية لغة)! لم يكن هذا الكلام ينطلق من وعي حقيقي للأشياء أو منطق واقعي للحياة بل من تربية عاطفية خاطئة تتستر على الواقع المزري وتتجاوزه إلى الطموح وتُصر على مثالية لا تمت للحياة بصلة لكنها مع ذلك قد اعتُمدت نموذجا للحياة.

كان في أعماقي حب لحياة حرة كريمة بعيدة عما ألفته سابقا، لكن ثقافتي الموروثة كانت تحتم علي ألا انتقص من بلدي ولغتي وثقافتي مهما كانت الحقيقة مختلفة، فهي صحيحة ومقدسة، وكنت أرى أن مجرد أن أتمنى الولادة في بلد آخر والنطق بلغة أخرى هو انتقاص كبير لبلدي وثقافتي، عليَّ ألا أفعله.

الميل للمحافظة عند الإنسان دائما أقوى من الميل نحو التغيير والتقدم، ليس في الثقافة العربية فحسب، بل حتى في الثقافات الأخرى، وقد برهنت التجارب العلمية على هذه الحقيقة. لكن مشكلتنا أصبحت أكثر تعقيدا عندما أضفى بعضنا نوعا من الهالة والقدسية على القديم بحيث أصبح التمسك به التزاما دينيا أو أخلاقيا أو الاثنين معا.

لا يزال كثيرون منا يرددون بعقول مقفلة أننا أفضل من باقي شعوب الأرض وأن ثقافتنا هي الأفضل ونمط حياتنا هو الأسمى وأن ديننا أو مذهبنا، أو فهمنا لأي منهما، هو الأصح بل وحتى زيّنا، خصوصا النسائي منه، هو الأفضل ونحن ملزمون به أخلاقيا وأن علينا التمسك بكل ما لدينا مهما كان الثمن، “فهذا هو قدرنا”. لكن التقييم الموضوعي للأمور سيتوصل إلى أن الكثير من ممارساتنا وعاداتنا ضارة بنا وبمستقبل أجيالنا، لكننا مع ذلك نواصل تلك العادات والممارسات والطقوس دون سؤال.

بعضنا لا يزال متمسكا بعادات وتقاليد ومفاهيم أكل عليها الدهر وشرب، وأصبحت ضارة ومعيبة ولا تساهم إلا في تأخير مجتمعاتنا والسير بها عكس الوجهة التي يسير بها العالم، لكنه لا يرى مساوئها، بل يعتقد بأن الالتزام بها واجب. لماذا؟ لأنه يفكر بعقل عاطفي معادي للآخر ويعتبر المحافظة على القديم والمألوف هي الأساس في الحياة، بل ويعتقد بإمكانية التقدم مع التمسك بالقديم.

البعض أخذ يستخدم مكتشفات العصر الحديث كوسائل الاتصال والاعلام والنقل لترسيخ القديم ونشره وإحياء الميت منه، ولنا في مواقع الانترنت والقنوات الفضائية وأجهزة الهاتف المحمول خير أمثلة على ذلك! لا يمكن التقدم أن يحصل دون تغيير في أنماط الحياة، والتغيير يحتاج إلى إستبدال البالي بالجديد والضار بالنافع والنافع بالأكثر نفعا والمريح بالأكثر راحة وهكذا.

هناك حاجة لأن ندرك أن التغيير ضرورة ويجب أن يحدث كونه حاجة ملحة وليس مجرد طموح أو رغبة أو نتيجة ملل من المألوف. وما زال غيرنا قد جرّب الطريق الأمثل لبلوغ الأفضل وسلكه قبلنا، فإن علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين ونسلك ذات الطريق كي لا نكرر الأخطاء ولا نضل الطريق.

استمرارنا في (حمل السُلّم بالعرض) لن يوصلنا إلى نتيجة مثمرة، ومحاولة (إعادة إكتشاف الجاذبية) ستكون مضيعة لوقت ثمين يمكن أن يُستثمر في إكتشاف علل ومشاكل كثيرة، وقفت حجر عثرة حتى الآن في طريق تقدمنا وإيجاد الحلول لها. القدسية يجب أن تكون للأفضل والأصلح والنافع وليس للقديم والمألوف.

 

حميد الكفائي

One Response to “هكذا وجدنا آباءنا”

  1. Jassim Al-Iraqi says:

March 18, 2011 at 21:01

الاستاذ الكفائي … شكرا لهذا الاستذكار، الذي اعاد تفكيري الى مئات القرون بما فعل أجدادنا من صرح حضاري امتد من بغداد الى الشرق والغرب، لكن هل استطعنا ان نحافظ على الموروث الكبير والرائع ونطوره بما يخدم الانسانية، اعتقد كلا، كما انني احيانا عندما أقرأ التاريخ تصيبني حالة من الشكوك بإننا فعلا أحفاد اولئك العظام، لقد تعرضنا الى حالة مرضية من التشتت الفكري والنفسي اسفرت عن حالة السير الى الوراء ولايوجد اي تقدم وتطور في مختلف نواحي حياتنا.