الحياة ٢١ كانون الثاني\يناير 2013

من الصعب أن يُلام أحد الأطراف دون آخر في الأزمة العراقية الحالية، والسبب هو أنها من التعقيد والتداخل بحيث إن كل الأطراف تشارك فيها بدرجة أو بأخرى.

هناك بالتأكيد من يقفز إلى لوم رئيس الوزراء نوري المالكي على كل شيء يحدث في العراق وكأنه كلّي القدرة وبإمكانه أن يحل مشاكل العراق بعصا سحرية من دون مشاركة الآخرين وتعاونهم. وإن كان المالكي يتحمل مقداراً أكبر من المسؤولية، باعتباره المسؤول الأول في الدولة، فإن شركاءه أيضاً يتحملون مقداراً كبيرا من اللوم، فإن كانوا لا يشاركونه في اتخاذ القرار فلماذا يستمرون معه في الحكم؟ وإن كانوا يشاركون في إدارة الدولة فعلاً فإنهم يتحملون مسؤولية الإخفاقات التي يحتجون عليها وبإمكانهم أن يدعوا لأنفسهم جزءاً من النجاحات المتحققة خصوصاً في المؤسسات التي يديرونها فعلياً.

يجب أن تكون هناك معارضة حقيقية غير مشتركة في الحكومة كي تشخص الخلل وتضغط باتجاه الإصلاح. أما أن تكون المعارضة مشتركة في الحكومة وفي الوقت نفسه تمارس دور المعارضة فهذا من شأنه أن يقود إلى ضياع المسؤولية عن أي إخفاق والتي يجب أن يتحملها كل المشتركين في الحكومة وليس رئيس الوزراء وحده.

العمل الحكومي والمؤسساتي هو عمل جماعي ولا يمكن أن ينجح إن كان أعضاء الفريق الذي يدير الدولة غير منسجمين مع بعضهم أو أن بعض أطراف الفريق له مصلحة في عدم نجاحه باعتبار أن النجاح قد يسجل لمصلحة فريق دون آخر. هذه مشكلة كبيرة تواجه العراق والبلدان التي تعاني من خلافات سياسية عميقة تجعل الخصوم يضعون العصا في العجلة حتى وإن قاد ذلك إلى تأخر البلد وتدهور مؤسساته. والمنطق الذي يتبعه هؤلاء منطق قديم يقوم على القاعدة القبلية «علي وعلى أعدائي»، أو ما قاله أبو فراس الحمداني «إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر».

منطق الدولة الحديثة يتجاوز الخلافات والطموحات الشخصية والحزبية ويأخذ في الاعتبار المصلحة العليا للبلد ومصالح المواطنين العاديين، وقد أصبح السياسيون في البلدان المتقدمة يربطون مصالحهم الشخصية والحزبية بمصلحة البلد فتبدو توجهاتهم وسياساتهم دائماً منسجمة مع بعضها ومع المصلحة الوطنية العليا. المرشح الرئاسي الديموقراطي الذي نافس بيل كلنتون على زعامة الحزب الديموقراطي عام 1992، بول سونغاس، ظل يتفاعل مع أبناء ولايته، ماساتشوستس، ويساهم في خدمتهم من على سريره في المستشفى ولم يتوقف عن خدمتهم حتى في يومه الأخير من دون أن يبتغي شيئاً غير إرضاء ضميره، لكن إيثاره وسمعته الطيبة قد مكنا زوجته من الفوز في انتخابات الولاية لمجلس الشيوخ وشغل المقعد الذي كان يشغله في حياته. بينما تنازل المرشح الرئاسي أل غور لجورج بوش وامتثل لأمر المحكمة الدستورية على رغم حصوله على العدد الأكبر من الأصوات. وما أكثر الناس من أمثال سونغاس وغور الذين تفانوا من أجل المصلحة العليا، فالتفاني في خدمة الناس والابتعاد عن المصالح الشخصية هو الأساس في العمل السياسي الحديث وهذا ما يريد العراقيون أن يروه سائداً بين سياسييهم.

كل الذي تسمعه من خصوم المالكي هذه الأيام هو أن رئيس الوزراء هو السبب في تدهور الأمن ونقص الخدمات وانتشار الفساد وما إلى ذلك من مشاكل يعاني منها العراق حالياً. لو كان المالكي وأعضاء حزبه يديرون البلاد من دون مشاركة الآخرين لكان هذا الكلام صحيحاً لكن مشاركة الآخرين في الحكم بطريقة أو بأخرى يعني أن المسؤولية تضامنية وأن الآخرين هم أيضاً مسؤولون عن إخفاقات المؤسسات التي يديرونها كالكهرباء والماء والطرق والصحة والتعليم والتجارة والاتصالات والنفط وما إلى ذلك.

ليس صحيحاً أن كل ما يجري في العراق اليوم هو سيئ وخاطئ بل هناك نجاحات يجب الإشارة إليها. لقد تمكن العراق من مضاعفة صادراته النفطية خلال الأعوام الأربعة المنصرمة وقد قاد ذلك إلى مضاعفة دخله السنوي ومكّنه من توظيف خمسة ملايين مواطن تقريباً في مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والخدمية وكذلك الإنفاق على الكثير من المشاريع التنموية والخدمية. لأول مرة منذ الثمانينات تجد طلاباً عراقيين مبتعثين يدرسون في الجامعات الغربية على حساب الدولة. ولأول مرة تجد مرضى عراقيين يعالجون على حساب الدولة في المستشفيات الأجنبية، وعلى رغم أن هناك جانباً سلبياً في الموضوع لأنه يشير إلى عدم قدرة المستشفيات العراقية على تقديم العلاج لمن يعانون من بعض الأمراض، لكنه دليل أيضاً على أن الدولة العراقية بدأت تنفق على مواطنيها كما تفعل الدول الأخرى. وكم أسعدني أنني قابلت مواطناً عراقياً من أقارب أحد المتهمين الهاربين يعالج على حساب الدولة في الخارج ما يعني أن مبدأ العقاب الجماعي الذي كان سائداً أيام النظام السابق لم يعد قائماً في النظام الجديد. ولأول مرة تجد مواطنين عراقيين من ذوي الدخل المحدود يسافرون إلى الخارج للسياحة والاستجمام ما يعني أن المستوى المعيشي للعراقيين آخذ في الارتفاع.

كما عاد الآلاف من المهاجرين والمهجرين إلى العراق ليعملوا في مؤسساته العامة والخاصة بعد أن تحسن الوضع الأمني وارتفعت مرتبات الموظفين والعاملين في المؤسسات العامة والخاصة. ومن الجدير بالذكر أن الدولة العراقية تمنح قطعة أرض و10 ملايين دينار عراقي (8300 دولار) كمساعدة مالية مقطوعة لكل عائد إلى الوطن كي تساعده على تأسيس حياة جديدة له في بلده.

ليس القصد من هذا الكلام القول إن العراق اليوم بخير وإن كل شيء على ما يرام، فهو في أمس الحاجة إلى المزيد من الخدمات والإعمار والوظائف والحريات وتفعيل القوانين بعد معاناة طويلة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من الحروب والعقوبات الدولية والقمع والاضطهاد السياسي. الكهرباء ما زالت تشكل عقبة كبرى أمام التنمية، وما زالت خدمات الطرق والمجاري وماء الشرب والمستشفيات والمدارس دون المستوى المطلوب بل وما أنجز في هذا المجال لا يتناسب مع الجهود التي بذلت والأموال التي أنفقت. لقد كشفت الأزمة الأخيرة أن كثيرين، نساء ورجالاً، قد اعتقلوا من دون أمر قضائي وأن هناك من انتزعت منهم الأدلة انتزاعاً عبر التعذيب أو الضغوط النفسية وهذه مشكلة كبيرة وخطيرة يجب أن تعالج ويحاسب المسؤولون عنها حساباً عسيراً لأن بقاءها يزعزع الثقة بالدولة ومؤسستها القضائية والأمنية. هناك حاجة ملحة للتخلص من إرث النظام السابق في التجاوز على حقوق المعتقلين وانتزاع الأدلة بالقسر. لقد اعتاد العراقيون منذ سنوات عدة على الأزمات السياسية والخلافات العميقة والاتهامات المتبادلة ومحاولة عرقلة جهود بعضهم بعضاً من دون الانتباه إلى ما يتركه ذلك على تماسك بلدهم وتطوره. كل طرف يرى أنه الأولى بالقيادة متناسياً أن وظيفة القيادة هي حل مشاكل الشعب وتنمية الاقتصاد وإيجاد فرص عمل وتحسين الخدمات. يجب ألا تكون القيادة هدفاً بحد ذاته فليس مهماً من هو القائد إن كان يطبق القانون ويقوم بواجبه تجاه من يقودهم.