الحياة ١ ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٢

لم تعد الحكومات الأيديولوجية تتمتع بجاذبية في هذا العصر لأنها متعبة لشعوبها وجيرانها، ومع إمكانـــية حصولــها على السلاح الــــنووي، أصــــبحت تهدد السلم العالمي.

وسبب خطورتها هو أنــها تنطــلق مــن النظرية إلى الواقع ولا تبالي بالنتائج المترتبة على أي سياسة تتخدها ما دامت هذه السياسة «صحيحة» نظرياً. وبسبب هذه القسوة والصلابة في التعامل، لم تتمكن الحكومات الأيديولوجية أن تحقق الكثير بل انهارت أو تغيرت بمرور الزمن وكانت آخر حكومة أيديولوجية تنهار هي حكومة طالبان بزعامة الملا محمد عمر، التي كان أهم إنجاز لها هو هدم تماثيل بوذا في جبال باميان القائمة منذ ألفين وخمسمئة عام!

ولم يبقَ من الحكومات الأيديولوجية إلا ما ندر، فهناك حكومة كوبا الصامدة، ثم حكومة عائلة كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية وأخيراً وليس آخراً حكومة الولي الفقيه في إيران.

ومع أن كلاً من دولتي كوبا وكوريا تقومان على أيديولوجية دنيوية تهدف إلى «إسعاد» الشعب في هذ الحياة، على رغم أن «الإسعاد» لم يتحقق يوماً في ظل التشدد، فإن الحكومة في إيران تقوم على أيديولوجية غيبية لا تهتم كثيراً للإسعاد في الدنيا بمقدار ما تهتم إلى تطبيق النظرية، وهذا هو ما يخيف العالم من برنامجها النووي الذي تقول إنه للأغراض السلمية، لكن العالم يعتبره مصمماً للأغراض العسكرية.

ومع تناقص الميل نحو الأيديولوجية وتصاعد المد الديموقراطي واقتصاد السوق والعولمة في بلدان العالم المختلفة، بدأت دول الربيع العربي تسير في الاتجاه المعاكس.

وعلى رغم العـــقلانية الــتي أبدتها حركة «النهضة» الحاكمــة في تـــونس والمرونة التــي أبداها «الإخوان» في مصر والتي نالت إعجاب العالــــم أخيراً عندما تمكــنت حكومتـــهم من التـــوسط بيــن «حماس» وإسرائيل ونـجحت في إبرام اتفاق وقف إطلاق النار بينهما، إلا أن تسرع الرئيس محمد مرسي الأخير في إعلانه الدستوري الذي منح به نفسه سلطات واسعة وحصّن قرارته من سلطة القضاء، عاد ليقلق الكثيرين في مصر وخارجها من توجهات حكومة «الإخوان» واعتدالها المزعوم. كذلك، فإن الاتجاه الديني في تونس ومصر لا يحدده هذان الحزبان «المعتدلان» فهناك أحزاب أخرى تريد أن تسير ببلدانها نحو التشدد الديني وقمع كل من يختلف معها، ما يضع ضغطاً على الأحزاب «المعتدلة» كي تتشدد.

يبدو أن الأحزاب الأيديولوجية غير قادرة على التعلم من أخطاء الآخرين، وإلا لرأت ما حصل ويحصل في إيران بسبب التشدد السياسي المرتبط بالتشدد الديني. إيران الآن تعاني من مقاطعة وعقوبات دولية قاسية، وهناك إصرار من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المضي في فرض عقوبات اقتصادية خانقة ضدها بما في ذلك مقاطعة صادراتها النفطية.

ومع أن إيران تمكنت من تجاوز المقاطعة خلال الأشهر الماضية عبر التجارة مع الدول الآسيوية، إلا أن ما تعتبره إيران نجاحاً إنما هو بسبب سماح الولايات المتحدة لدول جنوب شرقي آسيا بالاستمرار في شراء النفط الإيراني في الوقت الحاضر حتى تتمكن من الاستغناء عنه مستقبلاً ما يعني أن وضعها آخذ في التدهور.

مقاطعة المؤسسات المالية الغربية لإيران بدأ يضرب بقوة في اقتصادها، فاحتياطيها من العملات الأجنبية التي تعتمد عليه لتمويل الواردات، هو في تراجع مستمر وعملتها فقدت 80 في المئة من قيمتها خلال هذا العام.

كما أن هناك ستة ملايين إيراني يعانون من أمراض خطيرة ومزمنة، وفق رسالة وجهتها فاطمة هاشمي رفسنجاني، رئيسة جمعية دعم ضحايا الأمراض الخطيرة، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وأن هؤلاء في خطر داهم بسبب عدم تمكن إيران من استيراد الأدوية والعلاجات الضرورية نتيجة عزوف البنوك والمؤسسات المالية الغربية عن التعامل معها خوفاً من العقوبات الغربية.

الشعب الإيراني يعاني بسبب طموحات حكومته، وسواء كــانت تلك الطموحات مشــروعة أم لا، وهـــي إن كانـــت مـــشروعة لدولة كإسرائيل فلماذا لا تكون مشروعة لإيران، فإن المشكلة تكمن في انـــعدام الــثقة الدولية بهذه الحكومة والتي تجعل من أي تحرك لها مريباً حتى وإن كان بنوايا حسنة.

فالنظام الحالي لن يستطيع أن يحل أزمة الثقة مع العالم لأنها لم تأتِ كردِّ فعل وقتي، بل عبر تراكم طويل لسياسات متشددة وعدائية للعالم الغربي وكل الدول التي تختلف إيران معها.

بإمكان إيران، وهي دولة قوية وكبيرة ولديها إمكانات هائلة، اقتصادية وثقافية وبشرية، ويمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً في دعم الاستقرار والسلم العالميين، أن تصلح الأوضاع الصعبة التي تعيشها حالياً وتخرج نفسها من الأزمة بأقل الخسائر عبر القيام بإصلاحات سياسية جذرية تبدأ برفع القيود عن الترشح للانتخابات البرلمانية والرئاسية، إذ لا يحق حالياً لمن لا يؤمن بولاية الفقيه أن يترشح لأي منصب في البلاد، وتقليص سلطات الولي الفقيه ومجلس الخبراء الذي يعينه، وهي سلطات واسعة تشمل إقالة الرئيس والبرلمان المنتخبين مباشرة من الشعب وإلغاء نتائج الانتخابات. فإن رُفعت تلك القيود فسيكون بإمكان الشعب الإيراني أن يأتي بحكومة تمثله حقاً وتسعى لتحقيق مصالحه، ولن تكون بالضرورة معادية للطبقة السياسية الحالية، بل مصحِّحة لمسارها ومنقذة للبلاد من المستقبل القاتم الذي تسير نحوه.

هذه الإصلاحات مطلوبة بإلحاح قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية في نيسان (أبريل) المقبل، وبإمكان الولي الفقيه أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه إن هو وافق على التعديل الذي يبقيه في منصبه، ولكن في الوقت نفسه يعزز من سلطة الشعب الإيراني ويخفف من التأزم الذي تعيشه إيران مع باقي دول العالم.

أما دول الربيع العربي التي يستهويها تقليد النظام الإيراني فهي الأخرى مدعوة إلى النظر أبعد قليلاً من النصوص التي تقيد تفكير قادتها.

الديموقراطية الحقيقية لن تلغي أي قوة سياسية موجودة على الأرض لكنها تعكس توجهات الشعب المتغيرة، فالناخب، إن توافرت لديه الحرية والمعلومات الدقيقة، ينظر إلى مصالحه وينتخب الأقدر على إدارتها. والديموقراطية الحقيقية تنفع حتى الأحزاب الأيديولوجية لأنها تجدد أفكارها وقياداتها وتأتي بالأصلح دائماً وخير مثال على ذلك هو الحزب الشيوعي الصيني الذي كيّف نفسه ليتعامل مع الوضع العالمي الجديد إذ تبنى قبل عقدين من الزمن نظاماً يغير فيه القيادة كل عشر سنوات. ومع تغيير القيادة، تتغير السياسات فيُؤتى بالجديد المفيد ويُنبذ القديم البالي. يجب أن تكون المصلحة فوق كل اعتبار لأن التشدد في عالم حيوي متغير لن يجلب إلى أصحابه سوى الفشل والضياع.

http://alhayat.com/OpinionsDetails/457706