تونس ومصر تمتلكان مقومات التحول البنيوي إلى الديموقراطية

الحياة اللندنية
الجمعة، 17 يونيو 2011
ليس من قبيل الصدفة أن تتصدر تونس ومصر بلدان العالم العربي في التحول إلى الديموقراطية، أو المطالبة بذلك على الأقل، فهناك أسس ومقومات حضارية وتاريخية لهذا التحول نجدها في التاريخ الحديث لهذين البلدين اللذين كانا وما زالا رائدين في العالم العربي. تلك المقومات الحضارية هي التي جعلت التغيير السياسي الأخير الذي تزامن حدوثه في كليهما ذا طابع سلمي حضاري فاق ما حصل في بلدان أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية أثناء تغير أنظمتها خلال العقود الثلاثة الماضية، وإيران أثناء ثورتها عام 1979، بل وحتى بلدان أوروبا الأخرى كفرنسا في القرن الثامن عشر. لقد حافظ البلدان على تماسكهما الوطني وبقيت الدولة فيهما قوية وفاعلة على رغم انعدام الاستقرار السياسي وتغير الحكومة مرات عدة خلال أشهر قليلة. لم تحصل فيهما الفوضى والهرج والمرج التي حصلت في العراق أثناء عملية التغيير عام 2003 والتي لا يزال كثير منها مستمراً حتى الآن يغذيه تسييس الدين وانعدام النضج السياسي.

النهضة الفعلية في مصر بدأت مع تولي محمد علي باشا الحكم عام 1805 بعد أن جاءها قائداً عسكرياً لمحاربة الجيش الفرنسي. أقام محمد علي باشا حكماً علمانياً حديثاً اعتمد على الفصل التام بين الدين والدولة على رغم أن شيوخ الأزهر هم الذين نادوا به حاكماً. وقد سعى لإقامة مؤسسات تعليمية وثقافية وإدارية واقتصادية تقوم على أسس علمية حديثة وكان أول حاكم إسلامي يخرج عن النموذج الإسلامي المألوف في الحكم ويتجه إلى أوروبا ليستعين بمؤسساتها وعلومها لبناء دولته الجديدة، وكان يطمح أن تكون مصر الدولة الخامسة في العالم من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية. وكنتيجة لذلك حدثت في مصر نهضة علمية وثقافية واسعة النطاق. لقد أنشأ محمد علي جهازاً إدارياً على النمط الغربي وأرسل بعثات دراسية إلى الخارج ضمت آلاف الطلاب ليعودوا بعد سنوات قليلة ويطبّقوا ما تعلموه ويعلّموه للآخرين.

أرسى محمد علي دعائم الدولة الحديثة عبر بناء المصانع وتشييد الجسور والقناطر وإنشاء المدارس والمعاهد وتشجيع العلم والعلماء والاعتماد كلياً على الخبراء. وكان من نتائج تلك النهضة قيام مؤسسات تعليمية حديثة كمدرسة الألسن ودار العلوم والجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي ومؤسسات أخرى كثيرة، صناعية وتربوية، إضافة إلى صدور صحف ومجلات متعددة. وقد برز في تلك الفترة علماء مؤثرون كرفاعة رافع الطهطاوي الذي ترجم الدستور الفرنسي إلى العربية وألّف كتباً قيمة ساهمت في توعية المجتمع وأدار مدارس ومؤسسات ناجحة. وكان الطهطاوي في الأساس شيخاً أزهرياً رافق إحدى البعثات الدراسية إلى فرنسا كمرشد ديني لكنه وبعد اطلاعه على العلوم ونمط الحياة الغربية ودراسته اللغة الفرنسية واشتغاله في حقل الترجمة، أدرك ضرورة تبني العلمانية لبناء الدولة الحديثة وأخذ يدعو لها ويبين أوجه التوافق بينها وبين الإسلام.

وعلى رغم أن محمد علي سعى إلى تحديث مصر عسكرياً وثقافياً، إلا أن حكمه بقي فردياً ولم يتبنَ التجربة الديموقراطية الغربية، ما سهل عملية تعثر تلك الاصلاحات بعد وفاته. وقد سلك نجله إبراهيم السلوك نفسه في الحكم والتعليم والتنمية في سورية، لكن تجربة محمد علي لم تتواصل بالوتيرة نفسها بعد وفاته بعد تولي حفيده عباس الحكم الذي عاد بالدولة إلى حظيرة السلطان العثماني وصفّى معظم المدارس التحديثية التي بناها جدّه وأبعد العلماء وقادة الرأي وأبرزهم الطهطاوي الذي عيّنه مديراً لمدرسة ابتدائية في السودان! ولو تواصلت تلك التجربة لكانت مصر اليوم من دول العالم المتقدمة.

ولكن مع تعثر الــجربة ثم توقفها، فإن الأساس الذي أرساه محمد علي كان قوياً ومتجذراً، والشعور الوطني الذي نمّاه الطـــهطاوي كان راسخاً إذ تطور وامتد إلى العالم العــربي وتحــول إلى شعــور قــومي يجــمع العرب كلهم.

وفي تونس أيضاً، وفي فترة مقاربة، وصل إلى الحكم الباي أحمد عام 1837 وكان من المعجبين بتحربة محمد علي في مصر وقد حذا حذوه في إنشاء مؤسسات وطنية على أسس علمية من جيش وطني ومعاهد ومدارس ومصانع وموانئ وشجع العلم والعلماء وأسس مكتبة كبيرة في جامعة الزيتونة واستعان هو الآخر بالخبراء الفرنسيين لإرساء قواعد هذه المؤسسات العلمية. وقد خلف الباي أحمد في الحكم الباي محمد الذي أصدر ما أطلق عليه في وقتها «عهد الأمان» الذي يعتبر وثيقة مهمة في حقوق الإنسان، إذ وعد التونسيين جميعاً بأنهم متساوون أمام القانون بغض النظر عن الدين أو اللغة أو اللون أو العرق. كما أسس محاكم تبت في الخلافات بين التونسيين والأجانب الذين مُنِحوا للمرة الأولى حق ممارسة العمل وتملك العقارات. وعلى رغم أن تلك الإصلاحات لم تمر من دون معارضة من المحافظين، إلا أن السلطة الدينية المتنورة المتمثلة بالشيخ بيرم الرابع أقرتها خصوصاً أنها اعتمدت في أساسها على خط همايون الصادر من السلطان العثماني عام 1839 والذي يساوي بين رعايا الامبراطورية من دون اعتبار للاختلافات الدينية.

وعند مجيء الباي محمد الصادق إلى الحكم في تونس أصدر ما يسمى بـ «قانون الدولة» عام 1861 الذي مثّل نقلة نوعية في النظام السياسي، إذ نص على الفصل بين السلطات وإنشاء برلمان منتخب (المجلس الأكبر) يكون أعضاء الحكومة مسؤولين أمامه وله حق محاسبة حــتى الــباي نفسه، وتلك هي المرة الأولى التي يُسن فيها مثل هذا التــشريع في العالم الإسلامي. وقد لعب خير الدين التونسي، المــفكر والسياسي والحاكم، دوراً هاماً في تلك الاصلاحات التي شهدتها تونس منذ عهد الباي أحمد الذي بدأت في عهده الإصلاحات، إذ تولى وزارة الحربية ثم رئاسة البرلمان ثم رئاسة الوزراء، ثم انتقل إلى اسطنبول لاحقاً إذ أُعجب بأدائه السلطان عبدالحميد وعيّنه صدراً أعظم. وكان خير الدين من أبرز المتحمسين للدولة الديموقراطية ودولة الحقوق التي وضع أسسها في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك».

وخلال الفترات اللاحقة لم تنشأ في تونس أو مصر أنظمة قمعية كالتي رأيناها في العراق وسورية وليبيا، ويعود السبب في ذلك إلى الأرضية الحضارية التي رسّخها حكم محمد علي في مصر وخير الدين التونسي في تونس. وما رأيناه من تغيير سلمي للنظام السياسي مطلع العام الحالي، وما صاحبه من استقرار أثناء عملية التغيير وبقاء المؤسسات الوطنية متماسكة، لم يكن وليد الصدفة بل انطلق من البناء الحضاري الراسخ في كلا البلدين اللذين تمتعا دون غيرهما من بلدان المنطقة بأنظمة حكم حديثة بنيت على أسس علمية أخذت في الاعتبار مصلحة المواطنين ومستقبل البلد. لم تتمتع البلدان العربية الأخرى خلال تاريخها الحديث بمثل هذه الخلفية المواتية للاستقرار والتقدم، ولهذا السبب فقد تعثر التغيير الحقيقي فيها حتى مع تغير النظام السياسي بالقوة العسكرية كما حصل في العراق. التحول البنيوي يحتاج إلى أسس علمية وجهود حثيثة وخطط مدروسة وحاضنة حضارية، ولن يتحقق في غياب تلك المقومات.

حميد الكفائي

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/278677