مذكرات الشابندر: غضب من رفاق الأمس أم يأس من الإصلاح؟ 
الحياة ١٣ سبتمبر ٢٠١٢
 
 لم نألف نحن العرب كتابة المذكرات، وإن كتبنا فإننا نكتب لتبرير مواقفنا وإبراز إنجازاتنا ومثالب خصومنا وأحياناً خلق إنجازات لم تحصل إلا في مخيلتنا، وليس تصوير الأحداث كما رأيناها والإقرار بالأخطاء التي ارتكبناها، وقلما تجد اعترافاً بالأخطاء أو إقراراً بمواقف غائبة. ومعظم الذين كتبوا مذكراتهم من السياسيين العرب قد ساروا على هذا النهج وقلما تجد اعترافاً بخطأ أو إفصاحاً عن أمر كان مخفياً. أما الحكام فهم عادة ما يموتون على الكرسي لذلك فهم لا يفكرون أصلاً بكتابة أي شيء يمكن أن يسيء إليهم بعد رحيلهم أو ينتقص من خلفائهم الذين هم امتداد لهم. كثيرون منا يولون اهتماماً للتاريخ أكثر بكثير من الحاضر وطالما تسمع عبارة «التاريخ لن يرحمنا». وإن كان هناك نبل في مثل هذا الموقف فإن الذي يغطي عليه هو الهوس بما ستكتبه كتب التاريخ بدلاً من الاهتمام بما سيتحقق من مكاسب حالياً وترك كتب التاريخ للمؤرخين. وفي كل الأحوال فإن تاريخنا لم يكن دائماً ناقلاً أميناً للأحداث، فقد كتبه الأقوياء والمنتصرون.
 
مناسبة هذا الكلام هي المذكرات التي يكتبها المفكر الإسلامي العراقي غالب الشابندر منذ أسابيع عدة والتي نشرت على شكل مقالات قصيرة في مواقع إلكترونية متعددة. وغالب الشابندر معروف بآرائه الجدلية والجريئة في الوقت نفسه وهو يتميز بأصالة فكرية وجرأة نادرة في الوسط الإسلامي. لقد سرد لنا الكثير من القصص التي حدثت بينه وبين رفاق الأمس من قادة العراق الجدد وسياسييه، ومعظم هذه القصص تروي سلبيات هؤلاء وانعدام كفاءاتهم ونقص التزاماتهم الدينية أو الوطنية واهتمامهم بمصالحهم الخاصة بدلاً من بناء بلدهم. إلا أن المثير في هذه المذكرات أنه يغلب عليها الطابع الشخصي وبعضها يتضمن تحاملاً على أصدقاء الأمس ما يفقدها الأهمية التي كان يجب أن تكون عليها. فقد أولى اهتماماً كبيراً لشخصيات هامشية فعلاً في المشهد السياسي رغم صخبها السابق أو اللاحق، كما أن بعض الأحاديث التي أوردها هي أحاديث شخصية قد قيلت بأمانة وثقة وما كان عليه أن يبوح بها خصوصاً وأنه لم يشرح خلفيات قائليها وظروف قولها، وهل قيلت بجد أم مزاح. أما إضافة ألقاب إيرانية لبعض الأشخاص، ما يوحي بأن الشابندر يعيِّرهم بأصولهم، فهو ما لا يليق بمفكر مثله.
 
لقد تعرض الشابندر بالنقد الحاد لمعظم السياسيين الحاليين، بمن فيهم أخوه عزت، وهذه تسجل له دون شك، لكنه لم ينتقد نفسه إلا ضمنياً ربما، وهذه إحدى عيوب المذكرات العربية بشكل عام فالكاتب على حق دائماً وغيره على باطل. وما يحسب عليه أيضاً الأسلوب السردي المستعجل وغير المنهجي في النقل. صحيح أن المذكرات تبوح بالأسرار، ولكن يجب في الوقت نفسه تفسير الوقائع ومدى أهميتها للمتلقي. حديث الشابندر عن أصدقائه القدامى يوحي بأنه رجل غاضب منهم لسبب ما وقد اعترف أن مذكراته قد لا تخلو من دوافع شخصية، وهذه تسجل له أيضاً. هل هو غاضب لعدم حصوله على منصب؟ لا أعتقد فقد كان بإمكانه أن يحصل عليه عبر التواصل وتوثيق العلاقات وليس بنسف الجسور الذي فعلته مذكراته.
 
لقد عرف كاتب السطور معظم الذين تحدث عنهم الشابندر وعمل معهم في المعارضة والحكومة ولديه قصص تقترب من قصص الشابندر، ولكن ما الفائدة من سردها سوى تأجيج الأحقاد وإطلاق الاتهامات التي سينفيها الآخرون ويطلقون اتهامات جديدة ضد مطلقيها؟ أغبط الشابندر على جرأته في ما كتب وأعترف أنني لا امتلك تلك الجرأة أو القدرة رغم أنني احتككت أثناء عملي في الحكومة بمعظم الذين ذكرهم الشابندر أكثر بكثير منه ولدي الكثير من المعلومات التي احتفظ بها لنفسي وقد لا أبوح بها يوماً.
 
لا أريد أن أدافع عن أحد ممن ذكرهم الشابندر، ولكن أكرر أنه كان يمكن أن تكون مذكراته أكثر فائدة لهم ولغيرهم لو أنه تجنب القضايا الشخصية وغير الجادة وتحدث عن القضايا العامة. وبودي أن أشير هنا إلى شخصين ذكرهما الشابندر في مذكراته ألا وهما ياسين مجيد وعلي الموسوي كونهما عملا في الإعلام وقد تعرفت عليهما في هذا السياق. فالسيد ياسين مجيد كان مراسلاً للـ «بي بي سي» في طهران في وقت كنتُ أعمل في مقر المؤسسة في لندن. لقد كان الرجل متزناً ومهنياً طوال فترة عمله الإعلامي. وعندما انتقل للعمل في مكتب رئيس الوزراء، لم يتزحزح عن صفاته التي عرفناها عنه سابقاً من تواضع ومهنية وموضوعية. فلم يتدخل في شأن لا يعنيه وهو صاحب مقولة (لن أدس أنفي في منديل غيري). أما بعد انتخابه نائباً، فإن وضعه الجديد قد حتم عليه أن يطرح آراء جدلية لكنها تمثل القائمة التي ينتمي إليها، ومن الطبيعي أن يختلف معه خصومه حولها. لم يكن الشابندر موفقاً عندما أشار إليه بـ «البهبهاني» بتكرار ممل، فما العيب أن يكون المرء من أصل إيراني (إن صح ذلك أصلاً)؟ هذه الثقافة لا تنتمي إلى المدنية والتحضر اللذين ينادي بهما الشابندر، بل إلى عهد مدمر ما زال العراقيون يعانون آثاره. لم يكن أحد يتوقع أن غالب الشابندر، لما عرف عنه من اعتدال، سوف يلجأ إلى هذا الأسلوب في خلافاته مع الآخرين. أما السيد علي الموسوي فإنه عمل في وسائل إعلام مهنية عديدة سابقاً، وهو الآن يعمل في المجال نفسه وليس متطفلاً عليه، كما هي حال كثيرين هذه الأيام ممن دخلوا الإعلام لمجرد أنهم حصلوا على عمل فيه وليس لأنهم يجيدونه. ولأني عملت في هذا المجال لفترة طويلة، فإنني أرى أن أداء السيد الموسوي حالياً جيد وآراءه متزنة ومهنية ومتلائمة مع دوره، أما كونه قد غيّر آراءه وتحول من «متطرف دينياً وحزبياً» إلى مطالب بفصل الدين عن الدولة، فهذا تطور يسجل له لا عليه. ما قلته أعلاه ليس بدافع العصبية المهنية، وإنما لتبيان الحقائق فقط.
 
كتابة المذكرات تقليد جيد ومفيد دأب عليه الغربيون منذ زمن بعيد وبإمكاننا حقاً أن نستفيد من تقليدهم هذا، لكن علينا أن نتجرد من العواطف الشخصية ونقول ما لنا وما علينا كي يثق بنا الآخرون. لقد كتب السيد ضياء الشكرجي مذكراته قبل أعوام وكانت ممتعة ومفيدة في الوقت نفسه لأنها تضمنت سرداً منهجياً للأحداث ونقداً جريئاً للذات. لكن مذكرات الشابندر، على الرغم من جرأتها، تعوزها المنهجية والموضوعية، فالبوح بالأسرار، وإن كان محبذاً للقراء، لكنه يجب أن يكون ذا علاقة بالمصلحة العامة.
 
حميد الكفائي