الحياة: ١٤ آب/أغسطس ٢٠١٢  
 
ليست المرة الأولى التي يتسبب فيها برنامج تلفزيوني في إثارة جدل سياسي واسع النطاق في العراق ينشغل فيه الساسة والمسؤولون عن واجباتهم الوطنية، ففي رمضان الماضي أوقف البرلمان العراقي أعماله ومشاريع القوانين المعروضة أمامه لكي يناقش مسلسل «الحسن والحسين» الذي كانت تبثه قنوات عربية عدة ليتبنى في النهاية قراراً بمنع بث المسلسل، فالتزمت قناة واحدة فقط بالقرار كونها ملزَمة بالقانون العراقي لأنها تنطلق من بغداد، أما القنوات الأخرى فقد واصلت بث المسلسل، الممتع على ما يبدو، وانتقل مشاهدوه، ومعظمهم من الشيعة، من تلك القناة العراقية إلى القنوات العربية الأخرى ليكملوا مشاهدة باقي الحلقات، وبذلك أضاع البرلمان وقته وجهده في قضية خاسرة، ولو أنه أحال المسألة إلى الخبراء لكان أجدى له وأنفع للشعب العراقي.
 
والجدل الذي احتدم هذه المرة لا يختلف كثيراً عن السابق، إذ اختلط فيه السياسي بالديني وتحول كما هو متوقع إلى جدل طائفي، ما أربك المشهد السياسي العراقي القلِق أساساً. وتتلخص قضية الخلاف السياسي – الديني – الطائفي في أن هناك شخصيتين دينيتين غير عراقيتين، إحداهما شيعية والأخرى سنّية، قد تعرضتا للنقد الجارح من قبل نائبين عراقيين إسلاميين، أحدهما شيعي والآخر سنّي، عبر برنامج تلفزيوني رمضاني تبثه قناة الرشيد الفضائية، غير أن الجدل احتدم حول إهانة الشخصية الشيعية دون السنّية.
فقد طالب زعيم كتلة الائتلاف الشيعية، إبراهيم الجعفري، النائب أحمد العلواني الذي أطلق وصفاً نابياً على رجل الدين الشيعي اللبناني، السيد حسن نصرالله، بالاعتذار عن وصفه بـ «الكذاب»، بينما لم يُطالَب النائب الشيعي، سامي العسكري بالاعتذار إلى رجل الدين السنّي، الشيخ يوسف القرضاوي، الذي وصفه بأنه «أسوأ عمامة»، على رغم أن رئيس كتلة العراقية البرلمانية، سلمان الجميلي، قد أثار المسألة في معرض دفاعه عن النائب السنّي العضو في قائمته الذي أطلق ذلك الوصف ولكن من دون مطالبة الجانب الآخر بالاعتذار.
 
وفي اليوم التالي توقف البرنامج بقرار من معده ومقدمه، أحمد الملا طلال، الذي قال في بيان له إنه اتخذ القرار بسبب «حرصه على ألا يتحول البرنامج إلى أداة لتهديد اللُّحمة الوطنية». لا شك في أن البرنامج، الذي بدأ في رمضان الماضي، لم يتوخَّ المعايير المهنية في نقله للوقائع ولم يكن عادلاً في طرح النقد الذي تتضمنه مواده ذات الطابع الترفيهي، وهو على رغم شعبيته الواسعة وتكالب السياسيين عليه، قد أساء إلى كثيرين عندما سمح لخصومهم أن ينتقدوهم من دون علمهم أو إعطائهم حق الرد الذي تفرضه المعايير المهنية. وقد نال كاتب السطور حقه من التجريح والافتراء في إحدى حلقات البرنامج المذكور في العام الماضي من دون أن يُعطى حق الرد. الإشكال الذي وقع فيه البرنامج هو عرض صور لشخصيات سياسية ودينية ومهنية والطلب إلى المشاركين فيه التعليق عليها بسرعة ما يعني أن المعلق سيضطر لإطلاق الأوصاف من دون تفكير مسبق ما يوقعه حتماً في المحذور. ولسبب ما فقد شعر المشاركون بأنهم مضطرون للاستجابة لمثل هذا الطلب من دون أن يدركوا أنه فخ كان عليهم ألا يوافقوا عليه فالسياسي عادة ما يحسب ألف حساب لكل كلمة يقولها لما لذلك من تأثير قد يكون ضاراً بدوره ومستقبله السياسي. وفي الحلقة مثار الجدل، عرض البرنامج صورة للشيخ يوسف القرضاوي وطلب من النائب سامي العسكري أن يعلق عليها بتعبير قصير فقال: «أسوأ عمامة»، بينما عرضت صورة للسيد حسن نصرالله على النائب أحمد العلواني الذي قال إنه «كذاب»!
 
لم يكن البرنامج موفقاً في اختياره الشخصيات وكان على مُعدّيه أن يتجنبوا الطلب من ضيوفهم التعليق على رجال الدين تحديداً لما لهم من خصوصية وقدسية عند الناس. كما أن نقد أي شخص في غيابه أو غياب من يدافع عنه ومن دون إعطائه حق الردّ يخلّ بالمعايير المهنية التي تتبعها وسائل الإعلام المحايدة. ومن ناحية أخرى فإن تلك الشخصيات لم تكن دينية فحسب بل هي منخرطة في العمل السياسي منذ عقود وبذلك فهي لم تحافظ، بمحض اختيارها، على خصوصيتها وقدسيتها الدينية، وهنا تكمن إشكالية حقيقية. فهل يحتفظ رجل الدين بالقدسية نفسها إن هو انخرط بالعمل السياسي الذي يتطلب بل ويستقطب النقد من الخصوم وغيرهم؟ وهل يسيء النقد الذي يتعرض له المتصدون للشؤون العامة إلى رجل الدين الذي ارتضى لنفسه وسعى سعياً حثيثاً لأن ينخرط في العمل السياسي ويتولى مناصب سياسية أو عسكرية؟ معظم السياسيين الذين يرتدون الزي الديني لا يمارسون أي دور ديني، فما الهدف إذاً من ارتدائهم هذا الزي إن لم يكن للاستفادة السياسية واكتساب الحصانة من النقد التي تضفيها عليهم الصفة الدينية والتي تتناقض مع طبيعة الدور السياسي الذي يضطلعون به والذي يتطلب النقد والتقويم؟
 
وفي الوقت نفسه، لم يكن النائبان موفقين في التعليق على الصورتين اللتين عرضتا عليهما. فلا الشيخ القرضاوي يستحق وصف «أسوأ عمامة» كما قال العسكري، ولا السيد حسن نصرالله يستحق وصف «كذاب» الذي أطلقه العلواني.
 
ستبقى إشكالية الجمع بين الدين والسياسة تلاحقنا لزمن طويل حتى يدرك الدينيون والسياسيون، وقبلهم الناس جميعاً، أن الفصل ضرورة للدين والسياسة معاً، وقبلهما للمصلحة العامة، وكما يقول المفكر ورجل الدين اللبناني هاني فحص فإن الدين يفسد السياسة بالمقدار الذي يتدخل فيها، والسياسة تفسد الدين بالمقدار الذي تتدخل فيه. إن كان الأمر كذلك، فما الغاية، إذاً، من الجمع بين هذين الدورين المتناقضين إن لم تكن المنفعة الشخصية ومحاولة تحقيق المكاسب على حساب الآخر؟ رجل الدين المتصدي للعمل السياسي هو سياسي بامتياز ويريد الاستفادة من دوره الديني، والسياسي الذي يتدخل في الدين هو أيضاً سياسي يحاول توظيف الدين وتكييفه كي يلائم أهدافه السياسية. لقد أصبح الفصل بين الدين والدولة ضرورة لقيام الدولة الحديثة المستقرة ومنع الاحتراب بين فئات المجتمع المختلفة، وهذا ليس اختراعاً جديداً بل توصلت إليه أمم كثيرة منذ مئات السنين.