الاتحاد، الأربعاء 11 يوليو 2012
عشر سنوات والإصرار بالعراق على المسار الطائفي، فكذب تأليف مفوضية الانتخابات كل الخطابات والادعاءات الوطنية، مع أنها رحى الديمقراطية، فإذا دُنست هذه بالمحاصصة، فعلى السلم الاجتماعي نقرأ السلام. هنا أُذكر بقصيدة “بعض العقائد” للشَّاعر محمد صالح بحر العلوم (ت 1992) المشهور بقصيدة “أين حقي” (نهاية الأربعينيات)، شاهداً على ورطة حاضرنا بماضينا، قالها في عام 1934، وختم بالرجاء الصارخ، محذراً من إفساد الحاضر بالماضي: “إن كدرت نُدب الزمان صفاءنا/فلنا بدفن الماضيات صفاء” (الخاقاني، شعراء الغري).

وفي تحميل الأبناء والأحفاد ذنب الآباء والأجداد، والحرص على إعادة إنتاج الطائفية، يرى إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري): “قول القائل: واذكروا مصرع الحسين وزيدٍ/ وقتيلاً بجانب المهراسِ. فإن مثل هذه الأبيات وأخواتها أيضاً، أثارت أحقاداً بين أقوامٍ، وحركت نفوسهم، والتهبت فيها نيران الغضب، وحثهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم، ولم يرحموا منهم أحداً” (الرسالة الخامسة، الموسيقى).

 

بمثل ذلك انتقدت هذه الجماعة الفكرية مَن ظل ينوح على السيد المسيح بأن اليهود قتلوه، مما يحيي الأحقاد عبر الأجيال مِن الدِّيانتين، فقالوا: “ثم اعلم أن هذا الرَّأي والاعتقاد يُكسب صاحبه غيظاً على القاتل وحنقاً، وعلى المقتول حزناً وغماً، ثم يبقى طول عمره متألمةً نفسه معذباً قلبه، مشتهياً الانتقام مِن عدوه، ثم لا يظفر بشهوته، ويموت بحسرته وغصته” (الرسالة 42 في الآراء والدِّيانات).

ويحث بحر العلوم ضد الطائفية محذراً مِن تراكم البغضاء ومخوفاً مِن لحظة الانفجار: “اترك شعورَ الطَّائفية جانباً/ فالطَّائفية حيَّة رقطاء/لم يزرع الآباء بذرة سوئها/إلا ليحصد شرها الأبناء/ إنا سقطنا في الحضيض فهل لنا/ بعد السُّقوط ترفع وعلاءُ” (شعراء الغري).

هناك حوادث، الملفقة منها والصحيحة، تشكلت تشكيلاً عقائدياً، أُخذت عارية من زمنها، تُصب في عقول الأتباع، وهي أتربة خصبة مِن جيل إلى آخر، تنشر في النُّفوس كراهية وبغضاء فتتحول في طرفة عين إلى دماء. يحرص منتجو الطائفية على سقاية زرعهم بالحكايات المشوهة، فالعقل لم يعد ينقد ما يأتيه من أوهام وخزعبلات ودسائس لأنه معطل، وعلى وجه الخصوص إذا كان الأداء جماعياً، ويتم في أجواء دينية محكمة، وتحيطه هالة روحية، ومشبعاً بالتضامن الطائفي، ذلك بعد اختصار الأوطان إلى طوائف كل طائفة لها نشيدها ورايتها.

لقد صادرت الماضيات الأفئدة والألباب مصادرةً عجيبةً، فهناك شائعات شاعت لغرض مرهون في وقته، وهو سياسي بالتأكيد فالديني العبادي لا يقر الشائعات، له في الواضحات الصافيات لا غيرها، لكنه ثبت كحقيقة لا تقبل الجدل، وصار الحاضرون، المسخرون لها، يسدون آذانهم عن أي نقد أو محاولة تمحيص نافعة، مع أن تلك الشائعة أو سواها أخلت هذا الدين وذاك المذهب إلا مِن الشحناء والفِرقة، وكأن ليس فيه آيات قيلت لإدامة الحياة، وهنا نعود إلى الشاعر وقصيدته “بعضُ العقائد” عندما يقول منافحاً ومدافعاً عن الدين ورسالته الإنسانية، الذي يعبث الإسلام السياسي عبره في النفوس والعقول: “ما الدين فَرقنا ونحن أَحبةٌ/ لكنما عبثت بنا الأَهواءُ/ الدين يدعو للوفاق ويدعي/ داعي النفاق بأننا خُصماء/ إن المذاهب كالزُّهور تنوعت/ ولكل نوع نفحة وزهاء” (نفسه).

كان الزمن الذي قيلت فيه هذه القصيدة منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين (1934)، مثلما تقدم، ونحن الآن في العقد الثاني بعد الألفين، أي مضى على قولها ثمانية وسبعون عاماً، وأُقرب الصورةَ أكثر، كي يكون الخطب فادحاً فينا، ونتنبه لما نحن فيه، وما يحيط بنا من مساخر الزمان، أن الجيل الذين ولدوا في ذلك العام قد تقاعدوا وماتوا، ولم يعد منهم من هو مؤثر، وها هم الأحفاد يعيشون بما هو أسوأ وأرذل حالاً، فربما دفع الشاعر لقول ما قال شعور خفيف، كمحاولة إقصاء عن الوظيفة مثلاً، أو ترنم بقصيدة وإلقاء خطبة، تثير روح طائفة، لكنه ماذا سيقول لو شاهد جز الرؤوس وحشو البطون بالأحجار بفعل طائفي؟!

فعلى غرة اكتشف العراقيون أنهم كانوا يعيشون خيال المواطنة، وكم هم، في أجواء العنف وتسابق الأحزاب والجماعات الطائفية على إشهار السيوف ورفع رايات الكراهية، غرباء عن بعضهم بعضاً! أما هذه الأرض، التي اسمها العراق، فلا وجود لها إلا في خطب الخطباء وقصائد الشعراء!

تذهب قصيدة “بعض العقائد”، التي أخذت اسمها مِن مطلعها: “بعضُ العقائد وهي غاز قاتل/من نشرها تتسمم الأجواء”، إلى فضح رجل الدين الذي يستغل اختلاف المذاهب، فيُحشّد الأتباع رغبة في الزعامة عندما يقول: “يأتي بها ذَنب ليصبح باسمها/ رأساً تُقبل ذَنبه السفهاء/ يمشي وفوق دماغه جبل من الآثام/ تلك العِمة البيضاءُ/ ما اختارها إلا بعكس ضميره/ لبيان كيف يُكفن الأحياءُ”.

إن طلب الزعامة باسم المذهب، وبتكريس الطائفية خُلق قديم، عبر عنه إخوان الصفا قائلين: “إنما فعلوا ذلك طلباً للرياسة، كما بينا آنفاً، وأوقعوا الخلاف والمنازعة في الأمة، فهم يهدمون الشريعة، ويوهمون من لا يعلم أنهم ينصرونها” (الرسالة 31). وهذا ما صرح به أبو العلاء المعري (ت 449 هـ) فقال وكأنه قد اطلع على ما ورد في رسائل إخوان الصفا، فكان مجايلهم وحصل أن زار بغداد في تلك الآونة، التي بثوا فيها رسائلهم في أسواق الوراقة: “إنما هذه المذاهبُ أسبابٌ/لجذب الدُّنيا إلى الرؤساءِ/غرض القومُ مُتعةٌ لا يرقو/نَ لدمع الشماء والخنساء” (ديوان لزوم ما لا يلزم).

قبل ثمانية وسبعين عاماً يطرق الشَّاعر باب التَّوافق والوفاق، وكأنه توقع اللحظة التي تصاغ فيها السياسة بالمحاصصة الطائفية، وأن مفوضية الانتخابات تلتئم على أساس الطائفة لا الكفاءة، وكأن التجربة اللبنانية قد نجحت ولم تسفر عن حرب الخمس عشرة سنة، وما زالت في حالة الحرب ولا حرب، فقال بحر العلوم: “بل أبتغي مزج الفروع وإن يكن/ في الامتزاج مشقةٌ وعناءُ”.

أُذكر بهذه القصيدة الهادفة، لعل شعرةً مِن الغيرة تتحرك في رؤوس نواب برلمان الزمان، ويقفوا ضد التحاصص في مفوضية الانتخابات! لو تُعلق (القصيدة) أمام مجلس النواب، وفوق رؤوس أهل المراكز، بدلاً من الصور التي يُتاجر فيها بسوق الطائفية. أخيراً، يحذر الشَّاعر من استغلال الديمقراطية طائفياً بالحث على مواصلة الجهل والتجهيل، فقال: “أنا لا أُريد لأمتي حريةٌ/ في ما تدين لأنها رعناءُ”.

 http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=66844#ixzz20IPzbfVu