المستقبل-الأول من تموز 2012
منذ دخولي سوق العمل، قبل أكثر من ثلث قرن، وأنا في حرب، باردة أو ساخنة، مع كلمة “أستاذ”. فلقد تعمّدت مراراً أن أخاطب زملاء بالكاد تعرّفتُ إليهم بأسمائهم الأولى، من أجل أن يعاملوني بالمثل. وفي هذا، كنت أنجح مرّات وأفشل مرّات أخرى، إذ يصرّ بعض مَن أخاطبهم على التمسّك بـ”الأستاذ” حين يردّون عليّ. وهم ربّما ظنّوا أنّهم بهذا يثبتون تفوّقهم عليّ في التهذيب، ومن ثمّ يحرجونني بتفوّقهم هذا. وتحت وطأة الحرج أعود أدراجي إلى مخاطبة واحدهم بـ”الأستاذ”، مجدّدين كلّنا الحرص على “المستوى” اللائق الذي نتشارك في الانتماء إليه. 
أمّا الذين يشغلون مراتب في العمل يُفترض أنّها أدنى من مرتبتي، فكانت كلّ محاولاتي لدفعهم إلى مخاطبتي باسمي الأوّل تبوء بالفشل. وذات مرّة أجابني أحدهم مستنكراً، وبمعنى ما منبّهاً من أخطاء قد تكون سيّئة العواقب على نظام المراتب بمجمله: لا يا أستاذ، ولو! أنت أستاذ كبير!.
 
والأستاذ الكبير، الذي هو أنا، يواجه في الحياة العامّة كلّ ما يحبط رغبته في التخفّف من هذه الكلمة أو ممّا يعادلها من دلالات المرتبة والمقام. ففي المهنة، كثيراً ما أسمع مَن يعترض على نشر مقاله تحت مقال كاتب آخر، إذ هو أرفعُ من ذاك أستذةً أو أهميّة. وغالباً ما تصلني مقالات لكتّاب يعرّفون عن أنفسهم بأنّهم مفكّرون، أو يسبّقون أسماءهم بكلمة “الدكتور”، أو اختصاراً بحرف الدال الملحوق بنقطة. وكم كان ليكون مضحكاً لو أنّ برتراند راسل أو جان بول سارتر سبّقا اسميهما بتعبير “الدكتور” أو “المفكّر” أو “الفيلسوف”.
 
وفي المؤسّسات على اختلافها نجد مَن يناضل لكي يُخاطَب بـ”الأستاذ”، ومَن يفقد توازنه حين لا يكون جالساً في مكتبه وراء طاولته، وهما نُصبا الأستذة وحصناها الحصينان. في حالات كهذه يتبدّى شيء من العري في مواجهة العالم، بحيث يروح العاري يتصرّف كمن يداري خطأ فيه فيتعثّر في مشيه أو في كلامه.
لا همّ! فنحن، أبناء الفلاّحين، وبما نُكنّه من رغبة مقموعة في السلطة والمكانة، استعضنا عن البيك والأفندي والباشا بهذه الألقاب الحديثة التي نتخيّل أنّها تمنحنا المعنى والجاه. وهذا، في الحقيقة، ما يتعدّى بيئة المثقّفين والكتّاب والصحافيّين إلى نطاق أعرض منها كثيراً.
 
فعليّ مثلاً، وهو ناطور البناية التي أقيم فيها، شخص محبّب ولطيف جاء من سوريّا للعمل في لبنان. وهو يبذل قصارى جهده لخدمة البناية وساكنيها، بيتاً بيتاً، من دون أن يبدي أيّ تذمّر أو احتجاج. إلاّ أنّ عليّاً يتحوّل إلى امبراطور متعالٍ حين يضطرّ إلى التحدّث إلى السيّدة السريلانكيّة كوماري التي تساعدنا في أعباء المنزل. فهو يخاطبها بعجرفة، وإذا صبّحتْه، مثلاً، تردّد في إجابتها، وإذا أجابها فمن طرف لسانه. 
 
وكدت أظنّ أنّ المسألة تتّصل بطباع متوسّطيّة نشترك فيها نحن سكّان هذا الحوض الكبير، حيث السعي وراء الوجاهة الصغيرة جزء عضويّ من ثقافتنا، بالمعنى العريض والأنثروبولوجيّ لكلمة ثقافة. كذلك كنت أستشهد على الأمر بأهل الجنوب الإيطاليّ وأهل اليونان الذين يشكّل الأعيان الصغار المتشاطرون نُسباً كبرى من سكّانهم. بيد أنّ كوماري بدّدتْ ظنّي هذا. فهي، على رغم لطفها ولباقتها، وتفانيها في الاهتمام بالمنزل، تنهر صبيّ البقّال أو عامل المصبغة، ولأتفه الأسباب يعلو صوتها عليهما مكتشفةً في سلوكهما أخطاءً لا يعدّها إلاّ المستبدّون، الراسخون في الاستبداد، أخطاءً.
 
لكنّ ما تفعله كوماري لا يحجب حقيقة أخرى هي أنّ النساء عموماً أكثر صحّيّة من الرجال في ما خصّ طلب الوجاهة والأستذة. وهذا، في أغلب الظنّ، مردّه إلى تقليد مزمن أضعفَ العلاقة بينهنّ وبين السلطة والجاه في مجتمع ذكريّ. 
 
غير أنّ ما يصحّ في الأجناس قد لا يصحّ تماماً في الأعمار. فالصغار فينا قد يكونون، هم أيضاً، ناهدين إلى المجد والظهور لا يرضون عنهما بديلاً. وفي أيّام الشباب ربطتني صداقة بأمين الذي ساهمتْ ضآلته الجسديّة وقصره في جعله جباناً. هكذا كان يتراجع ويعتذر حيال كلّ مَن يرفع صوته في وجهه، حتّى لو كان هو صاحب الحقّ، وهو كثيراً ما يكون. والحال أنّ سلوك أمين فعل فعله في محيطه، جاعلاً معظم الذين يتحدّثون إليه يخاطبونه بلهجة أوامريّة زاجرة، كما يجدون ما يُغريهم في التجاوز عليه، وأحياناً إهانته. إلاّ أنّ أمين بعدما تعرّف إلى كامل الذي يفوقه ضآلة وقصراً، تغيّرت طباعه وتعدّل سلوكه. وعلى رغم أنّ كامل لطيف ومهذّب، يحرص على مخاطبة أمين بما يملكه من لطف وتهذيب، فهذا الأخير لم يكن يتورّع عن إهانته لسبب ولغير سبب، بل عن الإيحاء بأنّه يستطيع أن يضربه ساعة يشاء ولأتفه الأسباب. 
 
فهل أنّنا نحن البشر هكذا، وأنّ من لا يستبدّ منّا هو العاجز، على ما قال عمر بن أبي ربيعة ذات مرّة؟ أم أنّها علامة أخرى على التخلّف، إذ يتراجع كثيراً الطلب على الوجاهة في المجتمعات الأشدّ تقدّماً؟ ما أعرفه أنّ كوني “أستاذاً كبيراً” لا يساعدني البتّة على فهم هذه الأحجية!