كنا رفيقيْ درب وصديقين متلازمين لا نفترق. نمضي النهار معا نصفه الأول في المدرسة والنصف الآخر في مكان آخر، في السوق أو المقهى، في بيتي أو بيته، في بستان أو على شاطئ نهر أو جدول. كنا نشترك في كل شي وأسعد الأوقات عندنا هي التي نمضيها مع بعضنا البعض، ولا أتذكر أننا تخاصمنا يوما. كنا نعتقد أن العالم يتمحور حولنا وكنا نعتقد أن المستقبل هو نحن وأن صداقتنا قوة لا تضاهيها قوة، وقد وثقنا تلك الصداقة بأساليب شتى منها أننا ذهبنا إلى ستويو التصوير الرئيسي في الرميثة لنأخذ صورة كبيرة تجمعنا وقد علق كل منا هذه الصورة في الغرفة الرئيسية في منزله.

كانت الفترة مطلع السبعينيات، التي اشتد فيها نشاط حزب البعث في المدارس وبدأت المضايقات مع الطلاب تتخذ صورا شتى منها على سبيل المثال كثرة الضغوط علينا من قبل الطلاب الأعضاء في ما يسمى بـ “الاتحاد الوطني لطلبة العراق” المرتبط بحزب البعث بأن ننشط معهم في الاتحاد كي نكون لهم “قاعدة” ليكونوا هم علينا “قادة”. لم نأخذ الأمر بجدية وكنا دائما نهزأ من هذه المحاولات وكان صبيح يردد دائما باستخفاف عبارة “سكرتير مكتب سكرتارية” وهو عنوان رئيس الاتحاد، عندما نرى أحدهم. وكان يقول “إن هذه العبارة المضحكة وحدها تنفرني من هؤلاء وحزبهم”. كان أؤلئك الطلاب من معارفنا أيضا ولم يكن بيننا وبينهم إلا المودة، قد نستاء من بعض التصرفات أحيانا، ولكن لم تكن في تلك الأيام، وفي سننا تحديدا، أي أحقاد أو ضغون. كنا أنا وصبيح خجولين في المدرسة فلم نتحدث كثيرا داخل الصف ولم نتحمس لشيء وطالما هربنا من الطرق الفرعية وتحت جنح النخيل عندما يؤمر الطلاب بالخروج إلى الشوارع “تأييدا للحزب القائد” أو “إحتفاء” بإحدى مناسباته أو “إنجازاته” الكثيرة.

 

كان الجو العراقي (ولا يزال) مشحونا بالسياسة، ونحن العراقيين، شعب مسيس كما هو معلوم، نتنفس السياسة في الصباح والمساء، خصوصا وأن حزب البعث وواجهاته كان يقحم الناس في أمور السياسة شاءوا أم أبوا. وحتى قبل مجيء حزب البعث إلى السلطة، كانت هناك الأحزاب السياسية الأخرى التي انتشرت فروعها في ألوية البلاد. فقد كان والدي رحمه الله عضوا في الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي، وأتذكر أنه كان يحمل الهوية رقم 1، مما يعني أنه كان أول من انتمى إلى ذلك الحزب في لواء الديوانية. وطالما ذكّرني السيد نصير الجادرجي بالأمر وطالبني مرات عديدة بأن “أسير على خطى الوالد رحمه الله” وأنتمي إلى الحزب الوطني الديمقراطي الجديد بزعامته، وأجبته دائما أن “البركة بالموجودين” وأن الأبن غير الوالد. كان والدي دائما يحدثنا عن الحزب الوطني الديمقراطي وسياساته ورجاله ومحاولاته تشكيل الحكومة وعن الإنشقاق الذي حصل في الحزب بقيادة محمد حديد، ولا أزال أتذكر الكتيب القديم ذا الأوراق الصفراء المتهرئة، وهو برنامج الحزب الوطني الديمقراطي أو نظامه الداخلي، الذي كان يعتز به الوالد ويضعه بين وثائقه المهمة في صندوق صغير مقفل “فاتية”.

في هذه الأجواء السياسية تربينا أنا وصبيح وكنا نبحث الأمور السياسية في البلاد ونعطي تصوراتنا فيها ونعلق دائما بسخرية على هذه المسألة أو تلك. جئته ذات يوم من عام 1974 وطرحت عليه فكرة تأسيس حزب وطني ينهض بـ” أعباء البلاد والعباد” وقلت له إن كلا من حزبي البعث والشيوعي (مع الاعتذار للأخير) قد دمرا البلاد ولا يصلحان للحكم. ولم نكن عندئذ نسمع كشباب بالأحزاب الإسلامية ما عدا ما كان يعرف آنذاك بـ “الحزب الفاطمي” الذي اتضح لاحقا أنه غير موجود أصلا. فضحك صبيح وقال “هل تعتقد أننا نحن الاثنين، أنا وأنت، قادران على عمل كهذا؟” فقلت له “لو فكر الجميع بهذه الطريقة فلن يكون هناك أي عمل وطني كبير، وقد نكون أنا وأنت البادئين لكننا لن نكون الوحيدين”. لم يقتنع صبيح كليا بالفكرة لكننا بقينا نتداول الأمر لعدة أسابيع وبعد إلحاح شديد مني وافق على أن نؤسس جمعية صغيرة ربما تتحول إلى حزب لاحقا. أقدمنا على بركة الله وأسسنا “جمعية الأخاء العربي” لكنني أقترحت إضافة كلمة “الإسلامي” إلى الإسم كي نبتعد عن العصبية القومية ونضم أكرادا إلى جمعيتنا، خصوصا وأن الكثير من الأكراد قد أُبعدوا إلى مناطقنا في السبعينيات وكنا نختلط معهم في المدارس. انضم إلينا آخرون وبلغ العدد 22 عضوا على ما أتذكر وكنت دائما أحمل ورقة في جيبي فيها أسماء “الأعضاء” حتى رآها صبيح ذات مرة وقال متسائلا “أنت تريد أن تحبسنا”؟ عندها انتبهت إلى خطورة ما نقوم به، فعلى الرغم من أنه عمل صبياني لا يعبر إلا عن طموح شبان لا يعرفون من السياسة أو الحياة إلا القليل، إلا أنه كان عملا خطيرا وكان يمكن أن يقودنا إلى السجن أو الإعدام. لم أنتبه إلى الخطر أنا صاحب الفكرة لكن صبيح، بحكمته المعهودة ونظرته الثاقبة للأمور، انتبه إليه. لم تتطور جمعية الأخاء كثيرا بل تلاشت (والحمد لله) بسبب ضعف الإقبال عليها (خوفا من القمع) ممن فوتحوا بالأمر، ومعها تلاشى حلمنا السياسي.

في أواخر العام 1976 قتل أخي الأكبر حسين في إحدى حروب البعث العبثية مما دفعني لأن أغادر مدينتي الرميثة كليا إلى الديوانية تحت وطأة الاحباط والاكتئاب، فقد كنت قريبا جدا منه، ولم أستطع تحمل مقتله، فأردت أن أبدأ حياة جديدة في مكان جديد بعيدا عن أجواء بيتنا الكئيبة كي أتمكن من النجاح في الدراسة. وبعد إكمال الدراسة الثانوية في الديوانية في العام 1979-1980، غادرت العراق إلى لندن لإكمال دراستي الجامعية والتخلص من أجواء الرعب والإرهاب التي بدأ نظام صدام يمارسها بقوة على العراقيين، لكنني بقيت متواصلا مع صبيح عبر الرسائل. عند عودتي إلى العراق قابلت صبيح بعد ربع قرن من الفراق، وحمدت الله أنه تمكن من البقاء حيا في عراق صدام المليء بالموت. عندما جلسنا إلى العشاء في اليوم الأول أو الثاني لوصولي إلى الرميثة عام ألفين وثلاثة، جلس صبيح إلى جانبي وقال لي مازحا “ظننت أنك قد عقِلت بعد ذهابك إلى لندن!! لكنك يبدو لم تتغير! فقد عدت إلينا سياسيا على مستوى العراق”، ثم ذكّرني بفكرة إنشاء حزب سياسي التي كنت قد طرحتها عليه عندما كنا في الثالث المتوسط، و”جمعية الأخاء” التي أسسناها أنا وهو قبل ثلاثين عاما. وظل يحدثني عن أصدقاء طفولتنا الأحياء منهم والأموات وعن حياته خلال فترة غيابي الطويلة. تذكرنا الشهداء جميعا: محمد لايم وعلي عبد المحسن حويلي وكريم طعمة حسون وهلال عبد الزهرة حميدي ومجتبى سعيد حويلي وسعيد فلو عبعوب وكامل محسن مايع وسمير داخل عمران وعامر جمعة وكثيرين غيرهم رحمهم الله جميعا. هؤلاء من خيرة الشباب الذين أعدموا أو قتلوا ثائرين ضد طغمة صدام ونظامه الإرهابي. ظل صبيح يتردد علي يوميا طالما كنت هناك لنتحدث عما فاتنا خلال الربع قرن الأخير، وكان بيته أول بيت أزوره في الرميثة بعد بيتنا، بل البيت الوحيد حتى الآن.

أمضى صبيح عشرين عاما تقريبا في الجيش العراقي بعد أن تخرج من كلية التربية فرع الكيمياء وتدرج حتى أصبح عقيدا، واجتاز مخاطر جمة خلال هذه الفترة كادت أن تودي بحياته، لكنه صمد وكافح وحالفته السلامة. عبر لي صبيح عن رغبته في الإنتماء إلى الجيش العراقي الجديد وقد سعيت في هذا المجال كي يعود ليخدم وطنه في المجال الذي يعرفه. لكن مشيئة الله قضت أن تنتهي حياته المليئة بالعطاء والنشاط والعنفوان في حادث سير أليم أثناء عودته من مقر عمله كمدير لقوة حماية المنشآت في محافظة السماوة، الذي تولاه قبل فترة قصيرة، إلى بيته في قضاء الرميثة. كانت لي وله آمال عظام أن نعود للعمل معا، وربما في حزب سياسي علني هذه المرة، ودون الحاجة لأن نبدأ بـ “جمعية الأخاء”. غادرنا صبيح وهو في أوج عطائه وفي عنفوان نشاطه، ودون موعد أو إنذار أو تخطيط. إنها المشيئة الآلهية، والقدر المحتوم.  كلنا نموت ولن يبقى غير وجه الله، لكن مفاجآت حوادث السير في الطريق بين محافظتي السماوة والديوانية تحصد أرواح الناس منذ نصف قرن أو أكثر دون أن يهتم إليها أحد، وقد ذهب ضحية هذا الطريق آلاف الناس من أهالي المنطقة وغيرهم بسبب ضيقه وعدم صلاحه للمرور السريع. الطريق بين الديوانية والسماوة لم يتغير منذ إنشائه أول مرة قبل نصف قرن أو أكثر، وكل أموال العراق الطائلة التي تنفق هنا وهناك لم يخصص منها شيء لتوسيع هذا الطريق الذي يسميه أهل المحافظة الواحدة المقسمة إلى محافظتين بـ “طريق الموت”.

لقد ارتبطتُ بعلاقة روحية وثيقة بصبيح منذ الصغر وأحببته لسبب لا أعرفه بل حاولت جاهدا ولكن دون جدوى أن أربط عائلتي بعائلته بعلاقة قرابة. كتب إلي رسالة إلى لندن في الثمانينيات يعبر فيها عن دهشته لتواصلي معه! قال لي أنت رجل عجيب، لا تزال تتذكرني وتتصل بي رغم تباعد المسافات والأزمنة ورغم المشاكل بيننا؟؟؟ فكتبت له قائلا لن تحول بينك وبيني مشكلة وستبقى أخا عزيزا وصديقا أبد الدهر. غادرنا صبيح ولم يستأذن أحدا، لم يعرف به أحد، بل كانت زوجته وأولاده ينتظرون عودته كي يتناولوا معا طعام الغداء. أبحث عن عزاء بهذه المصيبة فلا أجد. لوكان صبيح قد استشهد دفاعا عن الوطن لكان هناك عزاء، ولو كان صبيح قد مرض ومات لكان هناك عزاء، لكن أن يقتل بحادث سير كان يمكن أن يُمنع هو أمر يبعث على اليأس والإحباط والكآبة والحزن العميق. كيف يُسمح لطريق مشؤوم أن يحرمنا من رجل معطاء امتلأ قلبه بالحب للناس جميعا، ومن رجل شجاع شهم كريم، من رجل ليس كباقي الرجال. إنه الحزن العراقي المستمر وسوء الطالع الذي رافقنا منذ مئات السنين.

العزيز أبا سيف: حبي لك لم يخفت مذ التقينا قبل أربعين عاما، وغيابك عن الدنيا لن يزيدني إلا حبا لك، لكنه سيبقيني حزينا أبد الدهر. سأقيم لك مأتما أبديا في قلبي الذي لن ينبض إلا وأنت فيه، والعذر كل العذر إن توقف نبضي. لا أزال في صدمة ولا أدري كيف سأتعامل مع الواقع الجديد، عشت سنينا على أمل اللقاء وقد التقينا، وما كنت لأهتم للفراق مع علمي بك حيا معافى، لكنني أعلم أننا لن نلتقي بعد اليوم لأنك ذهبت إلى الحياة الأبدية وتركت لنا الحياة الفانية. وا أسفاه أبا سيف أننا لم نكمل المشوار معا، فأنا في منتصف الطريق وكم كنت أتمنى أن تكون معي وكم كنت تتمنى أن تكون معي. أعدك أنني سأواصل الطريق وسوف أُؤسس مع باقي أصدقائنا “جمعية الأخاء” من جديد وستبقى هذه الجمعية رمزا لصداقتنا وأخوتنا فأنت مؤسسها وأنت ملهمها. وسأعلق الصورة العتيدة التي جمعتنا نحن الاثنين في مقرها، كي تذكرنا بك. لن تعوضنا الصورة عن حكمتك وبهائك وشجاعتك وهيبتك وحيائك واتزانك ونظرتك الثاقبة، لكنها ستُبقي جذوة الحب وهاجة. أبا سيف: وداعا لجسدك الطاهر، وداعا لروحك الطاهرة، وشكرا لله الذي من عليّ بصداقتك وأراني وجهك بعد فراق طويل.