المدى: 27/6/2012

ما تزال حروبنا ضد بعضنا البعض مستعرة ولن تنتهي حتى نقضي على بعضنا البعض قضاء مبرما كي نريح ونستريح. ولكن هل نحن قادرون فعلا على ذلك؟ لو كنا قادرين لفعلناه خلال الحقبة الماضية من تأريخنا المجيد الممتدة على مدى 14 قرنا. لا يمر يوم، لا بل ساعة، دون أن يكون هناك خبر جديد بأن فلانا قد فعل كذا ضد علّان وأن علّانا قد قام بكذا ردا على فلان وأذاقه المر مما دفع الأخير للرد عليه بقسوة ليذيقه الأمرين مما حدا بعلّان أن يتخذ إجراء يذيقه الأمرات الثلاثة! خارطة الطريق أصبحت واضحة إذن، فنحن الآن نعرف الخطوة المقبلة لفلان ضد علان والخطوة اللاحقة لعلان ضد فلان! حروب متواصلة وأكاذيب متبادلة وعداء مستحكم والمتضررون هم نحن، العرب والأكراد والتركمان، والمسلمون والمسيحيون واليزيديون والصائبة، السنة والشيعة… 

 سألني ذات يوم رئيس مؤسسة غربية يعمل فيها كثيرون من العرب وقد اعتذر مني مقدما قبل طرح السؤال طالبا عدم تفسير سؤاله في غير محله، خصوصا وأنها المرة الأولى التي التقي به: “أنتم العرب والشرقيون عباقرة وفنانون مبدعون دون شك ولكن في محاربة بعضكم البعض. الموظفون العرب في مؤسستي يتفننون في إيذاء بعضهم البعض وأنا أمضي جزءا ثمينا من وقتي يوميا لحل الخلافات بينهم وتلقي الشكاوى منهم ضد بعضهم البعض. لماذا لا توظفون إبداعاتكم هذه لتحسين أوضاعكم بدلا من الانشغال بمحاربة بعضكم البعض؟ أليس هذا أجدى وأكثر نفعا؟”. وقد حرت فعلا في الإجابة على تساؤله الذي يبدو أنه جاء عن قناعة راسخة بعد تعامله مع كثيرين من بلداننا. ويحار الإنسان حقا في مثل هذا المواقف ماذا يفعل. فهل يعترف بالحقيقة المرة أمام الأجانب أم ينكر أمرا أصبح واضحا للجميع؟ أجبته جوابا عائما مفاده أن عليه ألا يعمم استنتاجاته على الجميع لأن التعميم خطأ كبير يرتكبه أي إنسان وكان له جواب على ردي هذا أهمله في هذه العجالة.

 من يراقب الأخبار العراقية لا يجد سوى الحروب الطاحنة التي يخوضها السياسيون ضد بعضهم البعض والنقاشات الساخنة بين السياسيين الذين أصبح عددهم يعادل عدد السكان البالغين تقريبا، وكلهم قياديون طبعا، فالمقودون قلة قليلة وهم ربما ينتظرون دورهم كي يصبحوا قياديين أيضا ولكنهم مع ذلك يستحقون التحية على صبرهم هذا. إنها حقا مأساة كبرى فنحن قوم لا نزال نتصرف كالبدو، غير قادرين على بناء دولة عصرية لأننا لا نجيد إجادة تامة سوى الحروب والحملات الدعائية التي تستند في أكثر الأحيان إلى آراء منحازة أو ربما أكاذيب ملفقة.

 لقد وصلت الأمور إلى مرحلة خطيرة الآن في العراق فالمعارك المستعرة بين السياسيين أصبحت تهددنا جميعا وتهدد العراق ككل والمطلوب الآن من الجميع هو التهدئة والجلوس معا لبحث الخلافات التي بدأت صغيرة لكنها تنامت بمرور الزمن لتصبح الآن كبيرة ومعقدة وسوف تتنامى أكثر أن بقي الحال على هذا المنوال. التفاهمات السابقة بين السياسيين لم تعد قائمة والثقة القليلة التي أوصلتهم إلى تلك التفاهمات ذهبت أدراج الرياح. الديمقراطية التوافقية التي بنيناها في العراق لا تخضع للأسس الديمقراطية المعتادة في البلدان الديمقراطية، لذلك فإن من الصعب تفعيل الآليات الديمقراطية المتبعة في تلك البلدان حتى وإن كانت مدونة في دستورنا.

  إجراء سحب الثقة لا يستغرق في العادة أكثر من بضعة أيام ولا يتعدى أسبوعا حتى في البلدان التي تحكمها حكومات إئتلافية على الدوام كإيطاليا. بينما نحن نتحدث عنه وبه وحوله منذ ستة أشهر ولم نبدأ به حتى الآن. الأفضل لنا أن ننصرف للأمور المهمة الأخرى كتقويم الحكومة ومكافحة الفساد وتشريع القوانين الملحة التي تنتظر منذ زمن بعيد بدلا من إضاعة الوقت في إجراءات سحب الثقة التي بدا واضحا لكل ذي عين أنها لن تتم بسبب تشرذم قوى المعارضة والتعقيد الدستوري الذي يسمح بسحب الثقة بآليتين، الأولى هي عبر الرئيس، وقد جربوها وفشلت، والثانية عبر تقديم خُمس عدد النواب، 65 نائبا، طلبا عبر رئاسة البرلمان ولكن يجب أن يسبقه استجواب لرئيس الوزراء.

 

بالإمكان استجواب رئيس الوزراء في البرلمان حتى تتضح الأمور ويفهم الناس منه ومن خصومه القضايا الخلافية بين الطرفين وكيفية التوصل إلى حلول لها. لقد تأخر الجميع في المبادرة لحل هذه الإشكالات والسبب هو التصعيد الذي يمارسه الجميع وكل طرف يريد أن يكسب الوقت لصالحه عبر عرقلة مساعي الطرف الآخر. الآن أصبحت الأمور واضحة. لن يتمكن طرف من إلحاق الهزيمة بخصمه بالوسائل المستخدمة حاليا وعلى الخصوم أن يتعايشوا ويلتقوا عند منتصف الطريق في الوقت الحاضر وينتظروا كلمة الشعب بهم في الانتخابات المقبلة، فهذا هو الحل السلمي الوحيد للمشكلة إن أرادوا للدولة العراقية أن تتواصل وتتطور وإن فكروا بمصالح الآخرين الذين يعيشون معهم في هذه الدولة. الغريب أن سياسيينا يظنون أن المسألة تخصهم وحدهم وليس هناك غيرهم في هذا البلد. لا يا جماعة الخير. هناك آخرون غيركم يعيشون معكم ويتأثرون بأفعالكم سلبا وإيجابا. عمال وفلاحون وموظفون وجنود وشرطة ومعلمون وأستاذة وصحفيون ورجال أعمال وربات بيوت وكسبة وتجار وطلاب وتلاميذ وأطفال ومسنون ومرضى وعاطلون ومتقاعدون… وهناك دولة لها مصالح وجيران ومستقبل وهي جزء من المجتمع الدولي وهناك أجيال تنتظر منا أن نضطلع بمسئولياتنا في البناء والإعمار، لا أن نحترب على الصغائر والكبائر دون تمييز بينها.