• الحياة اللندنية
    الاربعاء, 23 مارس 2011
    قرار الجامعة العربية الأخير بالطلب من مجلس الأمن الدولي التدخل لحماية الشعب الليبي من حكومته هو قرار خطير يشكل سابقة تاريخية وتحولاً نوعياً في وظيفة هذه الرابطة القومية التي سعت منذ تأسيسها أواسط الأربعينات لخدمة الأنظمة الحاكمة، وليس الشعوب. هذا القرار حوّل الجامعة إلى مؤسسة دولية حديثة تراقب أداء الأنظمة الحاكمة وتعاملها مع شعوبها وتهتم بحقوق الإنسان وتضع مصالح الشعوب فوق مصالح الأنظمة، حتى وإن استدعى ذلك دعوة المجتمع الدولي للتدخل العسكري لتصحيح الأوضاع. وقد ساعد هذا القرار الشجاع الدول الغربية على التحرك لحماية المدنيين الليبيين، الذين امتلكوا الجرأة ليقولوا لا للديكتاتورية والتعسف والعبث ونعم للحرية والكرامة والديموقراطية، حتى وإن جاءت عبر تضحيات جسيمة. القرار الدولي في شأن ليبيا هو الآخر قرار تاريخي، وسيطيح في النهاية نظام العقيد معمر القذافي الذي فاق زعماء العالم جميعاً من نواح عدة أبرزها طول مكوثه في السلطة.

    اللافت في الموقف الدولي تجاه ليبيا هو الحماسة والاندفاع الفرنسيان للتخلص من نظام العقيد القذافي، إذ كانت فرنسا رائدة في استقبال المعارضة الليبية على أعلى المستويات والاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل للشعب الليبي، كما بدأت الطائرات الفرنسية بالتحليق في أجواء ليبيا بعد ساعات من صدور القرار الدولي. ويتناقض الموقف الفرنسي هذا تماماً مع موقف باريس من الثورتين التونسية والمصرية، إذ لم تبدِ فرنسا أي حماسة للتغير هناك، بل كانت تؤيد ضمنياً بقاء بن علي في السلطة. أما في خصوص نظام صدام حسين، فقد تسببت المعارضة الفرنسية لاستصدار قرار دولي يجيز التدخل العسكري في العراق عام 2003 في حرمان الولايات المتحدة وبريطانيا والدول التي أيدتهما، من الحصول على تفويض دولي للتدخل العسكري. لكن فرنسا حاولت لاحقاً تطوير علاقاتها مع العراق وقام وزير خارجيتها، برنار كوشنير، بزيارات عدة للعراق، بما في ذلك زيارة لقرية أبو هاون جنوبي العراق، الموطن الأصلي لنائب رئيس الجمهورية عادل عبدالمهدي، الذي يحمل الجنسية الفرنسية. كما أرسلت سفيراً الى العراق يتحدث اللغة العربية مارس نشاطاً واسعاً للترويج لبلاده. إلا أن ذلك لم يمنعها من معارضة إخراج العراق من طائلة الفصل السابع أثناء تصويت الأمم المتحدة حول العراق منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بسبب امتناع صندوق النفط مقابل الغذاء التابع الأمم المتحدة عن دفع فواتير لشركات فرنسية قال الصندوق إنها ليست أصولية. ومن غير المعلوم إن كان القادة العراقيون قد ناقشوا موقف فرنسا هذا مع المسؤولين الفرنسيين أثناء لقاءاتهم معهم، لكن موقف فرنسا ظل سلبياً من عراق ما بعد الديكتاتورية، على رغم محاولاتها الاستفادة اقتصادياً، وموقفها في الأمم المتحدة خير دليل على ذلك.

    وعلى رغم أن المبادئ بدأت تأخذ حيزاً مهماً عند اتخاذ المواقف الدولية، لكن المصالح لا تزال تعتبر المحرك الأساس لمواقف دول كثيرة. فبسبب ارتباط فرنسا بمصالح اقتصادية وثيقة مع نظام صدام حسين، إذ ساعدته في السبعينات في بناء مفاعل نووي (دمرته إسرائيل في غارة عسكرية في 7 حزيران/ يونيو 1981)، كما «أعارته» طائرات حربية حاملة لصواريخ الأكسوسيت في حربه مع إيران في الثمانينات، بل وأجبرت معارضين عراقيين مقيمين على أراضيها على العودة إلى بغداد في الثمانينات ليواجهوا مصيراً معروفاً، فقد حاولت باريس أن تحمي ذلك النظام (الزبون) على رغم معرفتها بالجرائم الكثيرة والكبيرة التي ارتكبها ضد شعبه والتي تفوق أضعاف ما ارتكبه نظام القذافي بحق الليبيين.

    الأمم المتحدة والجامعة العربية ومعظم دول العالم صمتت إزاء قمع نظام صدام حسين الوحشي للعراقيين عام 1991، ولم يلق المعارضون العراقيون سوى الصدود من دول ومنظمات كثيرة. أتذكر أنني ألقيت كلمات عدة على هامش مؤتمر حزب العمال البريطاني عامي 2002 و2003 ، بدعوة من منظمات مؤتلفة مع الحزب، شرحت فيها معاناة الشعب العراقي وتجاهل المجتمع الدولي والدول العربية تحديداً لهذه المعاناة، وكان ممثل الجامعة العربية في بريطانيا السفير علي محسن حميد، حاضراً ذات مرة بين مسؤولين عرب وأجانب. وقد اغتنمت تلك الفرصة لأذكّر بالمسؤولية الأخلاقية للمجتمع الدولي تجاه ما يحصل في العراق من قتل وقمع وتعسف يمارسه النظام وحصار وتجاهل يمارسه المجتمع الدولي، وانتقدت موقف الجامعة العربية وقلت إنها لم تحرك ساكناً بل صمتت كل هذه السنين على جرائم الحرب والإبادة الجماعية بحق الشعب العراقي ولم تستنكرها أو تعترض عليها. وبعد انتهاء كلمتي وقف السفير علي محسن حميد ودعاني للجلوس إلى جانبه وأخذ يحدثني عن الجامعة العربية قائلاً إن من حق الشعب العراقي أن يستغيث وهو يتعرض لكل هذه الكوارث، وأن العرب يعلمون بمعاناته، «لكن عليكم أنتم العراقيين أن تعلموا ما هي وظيفة الجامعة العربية قبل أن تعتبوا عليها. إنها تمثل الأنظمة العربية، ولا يمكنها أن تقف ضد أي نظام منها»! كان السفير حميد متعاطفاً مع العراقيين، لكنه أكد أن مهمة حماية الشعوب العربية من حكوماتها ليست من وظائف الجامعة.

    لكن وظيفة الجامعة قد تغيرت الآن على ما يبدو، فالتحول النوعي الأخير في موقفها يستحق التأمل لمعرفة إن كان تحولاً حقيقياً قابلاً للاستمرار أم أنه موقف عابر، وهو في كلتا الحالتين موقف فريد وشجاع يستحق التثمين والتشجيع. لقد تغيرت الخريطة السياسية العربية تغيراً جذرياً خلال السنوات الثماني الماضية، إذ شهدت زوال ثلاثة أنظمة ديكتاتورية مؤثرة في القرار العربي، هي أنظمة صدام حسين وحسني مبارك وزين العابدين بن علي، بينما ينازع نظام رابع الموت محاولاً التشبث بالسلطة ولكن من دون جدوى، فنهايته باتت وشيكة. إن سقوط هذه الأنظمة الثلاثة والسقوط الوشيك لرابع، وقد يتبعه خامس، قد ترك أثراً على الأنظمة الأخرى التي بدأت تحسب حساباً لحقوق الإنسان ورأي المجتمع الدولي. كما أن تطور وسائل الاتصالات والإعلام وانتشارها قد ساهم في تعزيز دور الشعوب وإضعاف الأنظمة الشمولية. ومع أهمية وفرادة قرار الجامعة بدعم الشعب الليبي ضد حكومته، فإن قرار مجلس الأمن الدولي بحظر الطيران في الأجواء الليبية والتشريع لعمل عسكري ضد القوات الموالية للعقيد القذافي، ستساهم فيه دول عربية، هو الآخر قرار نوعي وفريد سيغير موازين القوى في المنطقة ويجبر الأنظمة العربية على احترام شعوبها. لن يسمح العالم بعد اليوم لحاكم مستبد أن يستخدم القوة العسكرية في قمع شعبه وسلب حرياته التي باتت حقاً مقدساً لا يمكن التجاوز عليه. لقد تغير العالم إلى الأبد والعالم العربي مضطر لمجاراته والانسجام معه.

     

أرسل إلى صديق تعليق
تصغير الخط تكبير الخط

تعليقات

هل تحولت الجامعة العربية جامعة شعوب بدلاً من جامعة أنظمة ؟

كاتب التعليق : معد الشمري التاريخ : الخميس, 03/24/2011 – 14:14.
تحية
شكرا للكاتب “حميد الكفائي” على هذا المقال الرائع .. تسلسل وربط محكم للاحداث ..فعلاً أخي لقد كانت الجامعة العريبة مؤسسة جامعة للانظمة العربية الحاكمة .. نتمنى أن تكون اليوم أقرب إلى نبض الشارع العربي..
اما الموقف الفرنسي فقد اثبتت الأحداث عدم حياديته ؛ وقد يبدو مبرراً طبقاً لمصالح الدول الكبرى والحفاظ عليها والدفاع عنها باي ثمن كان

هل تحولت الجامعة العربية جامعة شعوب بدلاً من جامعة أنظمة ؟

كاتب التعليق : أمير التاريخ : الاربعاء, 03/23/2011 – 22:01.

التغيير لم يحصل يا أخي … البحرين تأن والجامعة العربية ساكتة كما سكتت عندم دبج الشعب العراقي في 1991 و بعده … التغيير يختص بحدث مؤقت وحتى في دلك.. ان الشعب الليبي لن يستفيد كثيرا من ضرب الدولة الليبية بقرار —- من الجامعة العربية و عمرو موسى ( مرشح نفسه لرئاسة مصر) ومجلس الامن الدى لا يستطيع أن يرى استمرار قتل واضطهاد الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه ,

هل تحولت الجامعة العربية جامعة شعوب بدلاً من جامعة أنظمة ؟

كاتب التعليق : malaka التاريخ : الاربعاء, 03/23/2011 – 10:03.

الجامعة العربية لم تتغير ولا يبدو أنها ستفعل أبدا طالما أن أمينها العام يتحرك في المساحة المشتركة بين اثنين وعشرين دولة، وما أضيقها. الأداء الأخير لعمرو موسى يرتبط بكونه قد قدم استقالته من الجامعة العربية وبالتالي لم يعد حريصا على إرضاء الجميع ضمانا لاستمراره في المنصب. يضاف إلى هذا توجهات موسى للترشح في انتخابات الرئاسة المصرية الأمر الذي يبيح تفسير تحركاته الحديثة، بما فيها الإعتراض على قوات الأطلسي لإسرافها في تحطيم القدرات الليبية، على أساس أنها دعايات انتخابية تظهر كفاءته الحقيقية.

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/247244