الحياة- ١١ يونيو ٢٠١٢
على رغم أن الأميركيين والروس إبان الحرب الباردة كانوا يعملون ضد بعضهم بعضاً في معظم الأحيان، إذ كان الأميركيون يروجون للديموقراطية ويحاربون الشيوعية في حين كان الروس يحاربون الإمبريالية (أميركا وحلفاءها) من أجل نشر الشيوعية، إلا أنهم تعاونوا في كثير من القضايا وتحالفوا في الحرب العالمية الثانية لمحاربة ألمانيا النازية وبقوا يعقدون الصفقات والاتفاقيات والتفاهمات لذلك كانت الحرب بينهم «باردة». وفي الوقت نفسه، لم يتخلَ أي من المعسكرين عن أهدافه وكانت الغلبة في النهاية للديموقراطية لأنها الأقرب إلى الطبيعة البشرية. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي انشغلت روسيا بحل مشاكلها الداخلية، الاقتصادية منها والأثنية والسياسية، وقلصت اهتماماتها الدولية، ومع انشغال الصين بالإصلاحات الداخلية والتنمية الاقتصادية، خلت الساحة تماماً للمعسكر الديموقراطي. ومن الدفاعات التي أقرها الغربيون ضد احتمالات الحروب بينهم وضد توسع الاتحاد السوفياتي غرباً، هو إنشاء الاتحاد الأوروبي ليجمع الدول الأوروبية المتنافسة والمتحاربة سابقاً. ومن هنا فإن الاتحاد الأوروبي ليس منافساً للولايات المتحدة ولا يسعى للحلول محلها كقوة عظمى، وأميركا نفسها تعتبره شريكاً اقتصادياً وسياسياً مهماً وهي ستتضرر إن حصل فيه أي تفكك أو ضعف. وللأسباب نفسها فإن أميركا لم تسعَ إلى زعزعة استقرار الصين الشيوعية منذ السبعينات لأنها أهم شريك اقتصادي لها وهي الآن تمتلك معظم الديون الأميركية إذ مولت جزءاً كبيراً من العجز في الموازنة الأميركية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
 
العلاقات الحديثة بين دول العالم تقوم على تعزيز المصالح وليس على زعزعة الاستقرار، على خلاف ما يحصل في دول الشرق الأوسط التي لا تزال تتناحر في ما بينها ما أضعف اقتصاداتها وبناها المؤسساتية. المشكلة أن سياسات دولنا تبنى حسب أمزجة حكامها وعلاقاتهم الشخصية وتصوراتهم للمستقبل ومصلحة النظام الحاكم التي هي ليست دائماً في مصلحة الشعب. دولنا بحاجة لأن تقطع هذه المسافة في أسرع وقت ممكن كي تسعى إلى بناء اقتصادات ومؤسسات قوية بدلاً من إقامة مؤسسات هزيلة رأينا كيف انهارت في أول اختبار لها بعد ثورات الربيع العربي التي غيرت الأنظمة في أربع دول حتى الآن، والخامس يترنح، بينما أحدثت تغييرات جذرية في التفكير السياسي للأنظمة العربية الأخرى التي بدأت من دون شك تخطط لإصلاحات سياسية وإدارية كبيرة.
 
دول أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً تحولت في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي إلى دول ديموقراطية تعتمد على اقتصاد السوق وقد حصل هذا التحول نتيجة للسعي الحثيث لأميركا وأوروبا الغربية لنشر الديموقراطية فيها بطرق شتى لكن شرارة التغيير أشعلها زعيم الاتحاد السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، الذي أعلن أنه لن يتدخل في الشؤون الداخلية لأوروبا الشرقية، عندها بدأت قطع الدومينو تتهاوى، وخلال أشهر انهارت الأنظمة الشمولية وحلت محلها أنظمة ديموقراطية تعززت فيها المؤسسات تدريجاً ليلتحق بعضها بحلف الناتو أولاً ثم الاتحاد الأوروبي لاحقاً بعدما تطورت اقتصاداتها. لو كانت أميركا تشعر بخطر من الاتحاد الأوروبي لما سعت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلى تقوية الروابط بين الدول الأوروبية كي تمنع قيام الحروب بينها وكي تنمّي الاستقرار الذي يقود إلى الرخاء الاقتصادي في أميركا وباقي دول العالم الغربي المتحالفة.
 
دول العالم العربي الهائجة حالياً سوف تحتاج إلى مساعدات غربية كي تنتج ديموقراطية حقيقية، تماماً كما حصل في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق قبل عقدين من الزمن. يشبِّه بعض الأوروبيين ما يحصل حالياً في العالم العربي بما حصل في أوروبا عام 1848 عندما أطاحت ثورات شعبية بالأنظمة الحاكمة لكنها لم تنتج أنظمة ديموقراطية راسخة. ويرى هؤلاء أن البديل الذي تطرحه هذه الثورات هو بديل ديني لا يمتلك برنامجاً اقتصادياً وسياسياً إصلاحياً واضحاً، وأن أحزاب الإسلام السياسي المهيمنة على الساحة حالياً تهدف إلى الاستيلاء على السلطة فحسب، فهي لا تمتلك سياسات استراتيجية واقتصادية أو رؤية مستقبلية واضحة، بل لا تسعى أساساً لبناء دول عصرية. ويتنبأ هؤلاء أن التحول الديموقراطي الحقيقي في المنطقة لن يحصل الآن بل في المستقبل، ربما البعيد، بعد أن تصطدم الأحزاب الحالية بالواقع وتجد نفسها غير قادرة على الاستمرار وفق أيديولوجياتها الحالية.
 
ويرى أكاديميون أوروبيون أن تنمية الديموقراطية تتم عبر ثلاث طرق. الأولى هي العمل العسكري لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية وإقامة أنظمة ديموقراطية بديلة لها، كما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا. والثانية هي العقوبات الاقتصادية ضد الدول غير الديموقراطية لحملها على التحول الديموقراطي التدريجي. والثالثة هي تقديم الحوافز المالية للدول التي تسير على طريق الديموقراطية. لم يعد الحل العسكري محبذاً خصوصاً بعد التعقيدات التي حصلت في الدول آنفة الذكر، من رفض شعبي، داخلي وخارجي، للعمل العسكري وتناحر واحتراب داخلي وتعثر في العملية الديموقراطية. أما العقوبات الاقتصادية ومقاطعة منتجات البلدان غير الديموقراطية فهي صعبة لأن البلدان الغربية بحاجة إلى النفط تحديداً ولن تستطيع التخلي عنه حالياً خصوصاً أن معظم الدول المصدرة للنفط غير ديموقراطية وبعضها لا يعتزم السير في هذا الاتجاه. كذلك فإن المقاطعة الاقتصادية تضر الشعوب أكثر من الأنظمة ولم تحقق أهدافها في السابق. فلم تغير نظام جنوب أفريقيا العنصري لعقود من الزمن ولم تطح بنظام الأخوين كاسترو في كوبا ونظام كيم إيل سونغ وابنه وحفيده في كوريا الشمالية. ولم تؤثر كثيراً حتى على إيران إذ لم تدفع النظام إلى التخلي عن طموحاته النووية. بقيت الطريقة الثالثة وهي تقديم الحوافز المالية وهي ربما مجدية ولكن مع الدول الفقيرة فقط لأن الدول الغنية لا تبحث عن هبات مالية. معنى ذلك أن الديموقراطية لن تأتي إلى منطقتنا إلا عبر التطور التدريجي للمجتمعات العربية الذي يأتي عبر التنمية الاقتصادية والثقافية ونشر المعرفة.