المدى-6-6-2012
اهتمام العراقيين بالشؤون السياسية متميز وهم ربما متفوقون فيه على شعوب أخرى كثيرة خصوصا في البلدان الغربية التي يهتم الناس بشؤونهم أولا وقلة منهم ينصرفون للشؤون السياسية. كل الناس تقريبا عندنا مهتمة بالشأن السياسي وهذا ليس بالأمر الجديد وما زلنا نتذكر أن آباءنا وأجدادنا كانوا مهتمين ومتابعين للشؤون السياسية الوطنية بالإضافة إلى تطورات الأحداث في بلدان أخرى، إقليمية ودولية. ودليل اهتمامهم هو متابعتهم نشرات الأخبار في إذاعات لندن وصوت أمريكا والقاهرة وطهران وإسرائيل وغيرها ومحاولاتهم فهم الأحداث السياسية واستشراف ما يمكن استشرافه من خلال قراءة النوايا، ولا نزال نتذكر ولعهم بنظرية المؤامرة ،وكان كثيرون منهم يعتقدون أن كل حدث سياسي إنما هو مرتّب مسبقا ولا أدري ما الذي أدخل هذه الفكرة في عقول الناس في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي وكأنهم درسوا جميعا في مدرسة سياسية واحدة… قبل أيام كنت في سيارة أجرة في إحدى العواصم العربية وقد أخبرت السائق أنني سمعت شعارات طائفية رددها بعض الناشطين (السياسيين) في بلد مجاور، فردّ السائق فجأة ودون تفكير (كل هذه الشعارات تقف وراءها أمريكا التي تريد أن تفرقنا بينما نحن موحدون ونحب بعضنا البعض ولا نشعر بهذه الفروق بين الطوائف!… فأمريكا في نظره هي التي دفعت الناس لأن يكونوا طائفيين وليس الشحن الطائفي والعنصري الذي يمارسه كثيرون في بلداننا المنكوبة. 
 
وفي العراق الديمقراطي انفتحت شهية الجميع على السياسة وهناك الآن رسامون ومطربون ونحاتون وموسيقيون ومهنيون من كل المهن والحرف مهتمون بالشؤون السياسية وممارسون لها وكثيرون منهم أعضاء في أحزاب سياسية ،وهذا بالتأكيد ليس أمرا سيئا ولكن معرفة معمقة في الشؤون السياسية تحتاج إلى أوليات قد تكون غائبة عن كثيرين ،ومن هذه الأوليات المتابعة المتواصلة وقدر من الحياد واحترام الرأي الآخر والاستعداد لتقبل نتائج الحراك السياسي وإن كانت مزعجة أو غير مرغوب بها لدى المهتمين. المتابعة والاهتمام مع وجود آراء وقناعات راسخة حول مواقف هذا الطرف أو ذاك و”ارتباط” هذا الطرف بهذه الجهة أو الدولة أو تلك، لن توصل صاحبها إلى الحقيقة التي يفترض أننا جميعا نبحث عنها. الانحياز المسبق لتوجه معين أو حزب معين والتعصب في المواقف السياسية يحجب الكثير من الحقائق عن الباحثين عنها ويضر بمن يقع ضحية لهما.
 
هناك الآن شائعات في كل الاتجاهات ومحاولات تسقيط للأشخاص والأحزاب والطوائف والقوميات، ولأن مجتمعاتنا لا تزال ضعيفة أمام هذه الشائعات ،فهي ربما تصدق ببعضها لكن المستغرب والمحزن حقا أن بعض الأشخاص الذين يفترض أنهم مطلعون سياسيا ومتابعون للأحداث يبثون مثل هذه الشائعات في الاتجاهات التي يعتقدون أنها تنفعهم رغم أنهم يعلمون علم اليقين أنها ربما كاذبة ومختلقة وأن بثها ونشرها وإيهام الآخرين بأنها حقيقية هو عمل غير أخلاقي وغير وطني وبالتأكيد غير نافع لأحد. وأحيانا كثيرة تصلك افتراءات ضد هذا السياسي أو خصمه وكلها تتحدث عن فساد ورشاوى وخداع وما إلى ذلك من ممارسات وهي مفضوحة للذين ينظرون بعمق للأحداث لكنها مع ذلك تنتشر لأنها تجد من ينشرها ويروج لها مع عدم إيمانه بصحتها. 
مخاطر مثل هذه الشائعات أنها تشغل الناس عن أمور أخرى أكثر أهمية وخطورة. فأحيانا ينشغل الناس بأكذوبة مفضوحة بينما يهملون حقائق مرة أخرى ولا ينتبهون إليها بل تمر عليهم بسهولة والسبب هو أنهم منشغلون بغيرها من الأكاذيب والافتراءات التي لا تصمد أمام الوقائع والأدلة المتوفرة. هؤلاء المتخصصون في خلق الشائعات وبثها ونشرها إنما يضرون أنفسهم أولا وأهدافهم ثانيا حتى وإن اعتقدوا أن الشائعات والأكاذيب يمكن أن تضر خصومهم، إن كان لديهم خصوم حقيقيون ولا تسيرهم أحقادهم وأمراضهم النفسية المتوارثة. لماذا يضرون أنفسهم؟ لأنهم ينشغلون عنهم باختلاق الأكاذيب التي يمكن في كثير من الأحيان دحضها بسهولة لأنها مفضوحة وضعيفة. لو كانوا قد كرّسوا جهودهم لنقد الأخطاء الحقيقية وكشف الممارسات الضارة وغير القانونية، وهي كثيرة، لكانوا قد نفعوا الناس جميعا وأضروا فعلا بخصومهم وفضحوا أخطاءهم ،أما الآخرون، فليس هناك إنسان لا يخطئ والخطأ يقود إلى ضرر في أكثر الأحيان. 
 
الاهتمام بالشأن السياسي أمر جيد وصفة مطلوبة ولكن يجب أن يكون مصحوبا بوعي ومتابعة معمقة للأحداث وسجل الأشخاص كي لا يتحول إلى الاهتمام بالشائعات والأكاذيب والتفاسير الجاهزة للأحداث والمواقف. مروّجو الشائعات دائما يراهنون على جهل الآخرين وهم في الحقيقة لا يحترمون الناس لأنهم يتوقعون أنها ستقبل بأي شائعة حتى لو كانت هزيلة ومفضوحة. ومما شجع على ثقافة القبول بالشائعات هو استعداد بعض مواقع الإنترنت غير المسؤولة لنشر أي شيء يأتي في طريقها دون التأكد من صحتها أو حتى تأثيراتها على المستهدفين منها. والسبب هو أن القائمين على هذه المواقع لا علاقة لهم بالإعلام وما كان عليهم دخول هذا الحقل قبل أن يتعلموا أساسياته.