المدى-28-5-2012

هناك الآن حملة واسعة النطاق تشن ضد تركيا في مدن وسط وجنوبي العراق، فهناك  تظاهرات صاخبة تُسيِّر في البصرة وعواطف تُؤجَج في بغداد ومحاضرات وخطابات وقصائد تلقى هنا وهناك في أنحاء العراق المختلفة ضد تركيا وأوردغان والعثمانيين الجدد، وكل ذلك لأن هناك خلافات سياسية طرأت، أكرر،طرأت، بين حكومتي البلدين أو ربما أقل من ذلك فهو ربما خلاف في الرأي بين سياسيين معينين في كلا البلدين، لأن عددا من سياسيينا ما زالوا يزورون تركيا ويعقدون معها الصفقات السياسية والاقتصادية.  استعداء السياسييين العراقيين تركيا وزج المواطنين العراقيين في معاركهم السياسية العابرة للحدود سوف يلحقان دون شك أضراراً فادحة بعلاقات البلدين التأريخية ويضران بمصالح الشعبين الحيوية، حتى وإن لاءمت أهداف هذا السياسي المرحلية أو دغدغت عواطف ذاك الزعيم الآنية.

نعم تركيا تؤوي نائب الرئيس الهارب طارق الهاشمي، وهي ليست الدولة الوحيدة التي تؤوي عراقيين هاربين، فهذه أمريكا تؤوي الوزير الهارب أيهم السامرائي وتلك الأردن تؤوي الوزير الهارب لؤي العرس والنائب الهارب عبد الناصر الجنابي (وآخرين) وكندا تؤوي الوزير الهارب محسن شلاش وبريطانيا تؤوي الوزير الهارب حازم الشعلان وإيران تؤوي (أو كانت) النائب الهارب سابقا أبو مهدي المهندس وسوريا كانت تؤوي قائد التحرير والجهاد عزة الدوري ولا تزال تؤوي زعيم أحد أجنحة حزب البعث (المكسورة) محمد يونس الأحمد وباقي رموز النظام السابق الذين يعملون فيها ومنها ليل نهار على زعزعة استقرار العراق، ولبنان يؤوي مطلوبين كثيرين. فهل علينا أن نستعدي هذه الدول لأن فيها هاربين من (العدالة) العراقية أو مخالفين في الرأي لبعض قادتنا السياسيين؟
 
ما هو ذنب المواطن العراقي البسيط الذي يجري إشغاله في معارك دونكيشوتية هي ليست معاركه وتأجيج عواطفه (ببلاش) وإيهامه بوجود أعداء له هنا وهناك؟ أليس الأجدى والأفضل أن نترك المواطن ينصرف لتأدية أعماله وتصريف شؤونه والعناية بأبنائه وتعليمهم والتعامل مع مشاكله اليومية المتفاقمة التي لم تستطع الطبقة السياسية الحالية أن تحلها له رغم وعودها المتكررة وصراخها وصخبها و(حرصها) الشديد (والواضح جدا) وسعيها الأشد على (تقديم) مصلحته على مصالحها؟  

هذه الأساليب غير المجدية بل والضارة تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية المتخلفة التي لا يهمها استقرار بلدانها بل هي تعتاش على الأزمات والأكاذيب والأوهام. وكان نظاما صدام حسين ومعمر القذافي بارعيْن في تجييش الناس البسطاء ضد سوريا الأسد وإيران الشاه [أو إيران الخميني لاحقا] ومصر السادات وسودان النميري وتونس بورقيبة وأمريكا ريغان (وهكذا يجري ربط البلدان بزعمائها وسياساتهم). وكذلك فعل نظام الملك المعظم كيم إيل سونغ الأول وأبنائه وأحفاده من بعده في كوريا الشمالية.
 
 لم نسمع يوما أن بلدا يحترم شعبه وسياسيين يحترمون عقولهم وعقول الناس أقدموا على مثل هذه الأفعال وأضاعوا وقت الناس بقضايا غير ذات جدوى. لقد جرت الأعراف على أن تُسيّر التظاهرات من أجل مطالبة الحكومة الوطنية بحقوق ضائعة أو تنفيذ سياسة معينة أو تنبيه الناس والحكومة لمشاكل قائمة أو أخطار داهمة أو احتجاج على سياسة خاطئة وليس جر الناس وإشغالها في معاداة البلدان والشعوب الأخرى.

ألم تلاحظوا أن البصرة تستهدف أكثر من غيرها في مثل هذه الحملات؟ فهناك تظاهرات تجري لتأييد آراء حسين الأسدي المنتقدة لزملائه السياسيين وتظاهرات ضد تركيا مطالبة بتسليم طارق الهاشمي وتظاهرات وتهديدات ضد الكويت وما إلى ذلك من معارك مختلقة…
 
ربما، وهذا مجرد تحليل (ملبلب)، لأنها مدينة الثقافة والشعر والفنون، ولأنها مدينة عرفت بأخلاق أهلها العالية وتسامحهم وكرمهم، ولأنّ فيها وعيا سياسيا وثقافيا عاليا، فهي المدينة التي احتجّت على نقص الكهرباء وشيّعتها قبل عامين في موكب حزين فريد من نوعه، وهي المدينة التي رفضت دوما الدعوات الطائفية التي تحاول تفريق العراقيين على أسس مذهبية، وهي المدينة التي تحتج على رمي النفايات الإيرانية في أنهرها وحقولها وهي المدينة التي يعاني أهلها الأمراض التي اجتاحتها بسبب الحروب والإشعاعات والإهمال المتواصل وهي المدينة التي تنتشر فيها الألغام التي راح ضحيتها حتى الآن آلاف المواطنين العاديين الذين فقدوا حياتهم أو أطرافهم وأصبحوا معاقين، وهي المدينة التي تمتلئ بالنفايات والمستنقعات رغم أن العراق كله يعيش على ثرواتها ونفطها وموانئها، لكنها مع ذلك تعاني  نقص الخدمات الأساسية بل وغياب بعضها رغم إنفاق مليارات الدولارات في هذا المجال منذ تسع سنوات وحتى الآن ولكن دون جدوى.
 
 هناك محاولة لإشغال أهل هذه المدينة الشرفاء والواعين في هذه الصراعات والمعارك التي ليس لهم فيها ناقة ولا جمل ولا حتى أرنب، وأستغرب حقا أن أرى أشخاصا مهنيين أو مثقفين ينجرون إلى مثل هذه المعارك التي يختلقها السياسيون ويشغلون الناس بها.
 
لا أدافع عن طارق الهاشمي وقد قلت مرارا في مقالات ومقابلات منذ بدء أزمته مع (شركائه) حتى الآن إنه ما كان عليه أن يهرب فالهرب عيب على السياسي أو العسكري أو أي إنسان يدخل في مواجهة يؤمن إيمانا راسخا بصحة موقفه فيها. نعم، قد يقول قائل إنه يخشى أن يُظلم، لكنه عندما تصدى لقضية عامة كان عليه أن يضحي من أجلها ولا يلتذّ بمكاسبها وامتيازاتها ويهرب عندما يحمى الوطيس.
 
 ذهب زعيم المعارضة الفلبينية السابق، بنينو أكينو، بنفسه إلى مانيلا من منفاه في لندن عام 1986 وقد حذروه من أن الرئيس ماركوس سوف يقتله حين وصوله فقال بشجاعة “فليقتلني فهذا ليس مهما فأنا نذرت حياتي للفلبين لكنه إن فعل فسيرتكب جريمة أخرى تزعزع أركان حكمه”. وفعلا ذهب أكيونو وقتل في المطار (على أيدي مجهولين!) فقامت ثورة عارمة في الفلبين أطاحت بماركوس ونصبت زوجته، كريزون أكينو، رئيسة للبلاد.
 
 أمضى نلسن مانديلا 28 عاما في السجن ثم خرج ليصبح رئيسا لجنوب أفريقيا بعد أن هزم خصومه وهو في السجن وأصبح بعد ذلك رمزا عالميا للصمود والتسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان والخلق الرفيع وهذا هو المثل الذي يجب أن يقتدي به سياسيونا إن كانوا حقا مخلصين لبلدهم ويريدون أن يخدموا شعوبهم.

لا شك لدي أن القضاء العراقي الذي (أنصف) مشعان الجبوري، المحكوم والهارب سابقا، سوف (ينصف) المطلوب والهارب حاليا طارق الهاشمي في يوم ما في المستقبل القريب أو البعيد، واحسبوها عليّ إن لم تتحقق هذه (النبوءة).
 
يجب ألا يُجر الشعب العراقي إلى مهاترات وعداوات ضد بلدان أخرى هي بلدان صديقة وشقيقة لنا، ويفترض أن تكون كل شعوب العالم صديقة لنا. تركيا ليست عدوة للعراق ولا تريد سوى أن تستفيد اقتصاديا كباقي الدول الأخرى لكنها على الأقل دخلت العراق وعملت فيه في وقت رفض آخرون، واستقبلت العراقيين دون قيود في وقت تضع دول أخرى (شقيقة) كل العراقيل بوجه المواطن العراقي، سابقا وحاليا.
 
قبل أشهر دخلت مطار اسطنبول قادما من العراق وإذا بمسؤولي الهجرة الأتراك ينادون على العراقيين أن يصطفوا في جهة بينما اصطف باقي المسافرين في جهة أخرى.
العراقيون دخلوا تركيا دون تأشيرة ودون رسوم بينما اضطر المسافرون الآخرون إلى الاصطفاف لبعض الوقت من أجل دفع الرسوم والحصول على التأشيرة.
 
 وأتذكر أن أحد العراقيين الذي كان واقفا أمامي قد أخرج جواز سفره الأمريكي كي يدخل به إلى تركيا فقال له الموظف التركي “هذا الصف للعراقيين فقط. أنت أمريكي فاذهب واستحصل تأشيرة دخول” فقال له العراقي “لكني عراقي أيضا” فرد عليه: “جواز سفرك أمريكي ونحن نتعامل حسب جواز السفر”، فذهب الرجل واستحصل إذن الدخول ودفع الرسوم كباقي الأجانب.
 
 لقد دخل العراقيون تركيا بكل كبرياء واحترام كأنهم مواطنون أتراك بينما اصطف الأجانب، من الأمريكيين والبريطانيين والألمان، لفترة من الوقت ودفعوا الرسوم قبل أن يدخلوا.
 
أريد أحدا منكم أن يسمي دولة واحدة، شقيقة أو صديقة، تعامل العراقيين بهذا الاحترام وهذه الأريحية. الجواب لا توجد دولة في العالم تستقبل العراقيين دون شروط إلا تركيا. بينما هناك دول (شقيقة حتى النخاع) تستلذ بإهانة العراقيين وإذلالهم على حدودها وفي مطاراتها وطرد بعضهم وإعادتهم من حيث جاءوا رغم أنهم ينفقون الأموال في كل بلد يذهبون إليه.
 
 إحدى البلدان الشقيقة أرجعت عراقيا أراد مجرد المرور فيها إلى بلجيكا بدعوة من مؤسسة بلجيكية وكان حاصلا على تأشيرة دخول إلى كل دول أوروبا وكانت الحجج التي قدموها واهية وهزيلة. لقد فوتوا عليه فرصة دراسية نادرة وكانوا يتلذذون بحرمانه من تلك الفرصة ولا نريد أن نتحدث عن الأسباب التي تدعوهم إلى التلذذ سوى أنها أمراض اجتماعية موجودة في بلادنا التي تتحجج بكل شيء من أجل إيذاء الآخر.
 فهو مرة مختلف مذهبيا وأخرى عرقيا وثالثة ثقافيا وعاشرة متخلف اقتصاديا وهكذا. نعم بعض الساسة الأتراك يتدخلون في الشأن السياسي العراقي، كما هو حال دول أخرى كثيرة، مجاورة أو عابرة للمحيطات، ولكن الذنب ليس عليهم بل على من يجرهم إلى ذلك من العراقيين.
 
لا نريد أن نعادي دولا تحترمنا وتسهل دخولنا وتسخر خطوطها لنقلنا إلى كل مدننا الرئيسية وتسخر شركاتها لإعمار بلدنا في وقت نكص آخرون، ولا نريد أن نعادي شعبا صديقا وشقيقا تربطنا به روابط عديدة وأهمها المصالح المشتركة التي نحن بأمس الحاجة إليها. صدقوني أن قضية طارق الهاشمي لا تستحق أن نستعدي دولا مثل تركيا من أجلها فهي صغيرة جدا فلماذا نعظم الصغائر يا جماعة؟ إن حشر تركيا العملاقة في خانة طارق الهاشمي الضيقة هو أمر عجيب وهو بالتأكيد يفرح السيد النائب.
 
الخلافات بين الدول تترك للحكومات والمسؤولين المتخصصين بها فهذه هي مهمتهم ولا شأن للناس العاديين بها. يجب أن نعلم أن تأجيج النعرات العرقية والطائفية لن يأتي علينا إلا بالويلات والمصاعب والأذى. ألم يكفِنا عشرات السنين من العداوات والحروب وإضاعة الوقت في توافه الأمور؟ فلماذا يسعى بعض سياسيينا إلى استمرار الأوضاع على هذه الشاكلة؟ فليحُل السياسيون مشاكلهم الداخلية والخارجية دون إشراك الناس البسطاء في معاركهم التي لا تنتهي. إن لجوء السياسيين إلى إشغال الناس في معاركهم السياسية إنما هو فشل ما بعده فشل والأمل هو في وعي الناخب العراقي مستقبلا كي يعرض عن انتخاب من فشل في أداء عمله وسعى إلى إشغاله في شؤون لا تمت إلى مصالحه بصلة.