الحياة, 13 مايو 2012
 عوّدنا الإيرانيون أنهم دائما قادرون على الإتيان بما هو مذهل وخارج عن التصور ومثير للاستغراب أو الإعجاب، اعتمادا على هوية المتلقي. فمازلنا نتذكر الرسالة التي بعث بها الإمام الراحل روح الله الخميني عام 1989 إلى زعيم الاتحاد السوفيتي ميخائيل غوربتشوف يدعوه فيها إلى الإسلام والتي أثارت استغراب كثيرين وإعجاب آخرين! وكان التساؤل آنذاك هو هل كان الإمام يا ترى يعتقد فعلا أن غوربتشوف يمكن أن يستجيب لهذه الدعوة ويتحول إلى الإسلام، ومعه شعوب إمبراطوريته، أم أنها كانت رسالة سياسية موجهة نحو الداخل الإيراني أو ربما العالم الإسلامي؟ في كل الأحوال فإن الأمر متروك لتحليلات المؤرخين، لكن المؤكد أنها كانت حقا رسالة تأريخية. وبعد ربع قرن تقريبا من تلك الرسالة الفريدة، يفاجئنا نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي بدعوة العراق إلى الوحدة مع إيران! نعم الوحدة لا غير! فإيران، الدولة الكبيرة الشاسعة القوية الثرية المأهولة بثمانين مليون إنسان، وتمتد من البحر العربي جنوبا إلى بحر قزوين شمالا، لا تكفي على ما يبدو لإرضاء طموحات القادة الإيرانيين الجامحة، فهي صغيرة في نظرهم وضعيفة وتحتاج إلى أن تكون أكبر وأقوى بانضمام العراق إليها، كي تكون إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس!
 

 ما الذي تعنيه دعوة رحيمي التي كررها مرتين حتى الآن؟ هل يقصد منها تهديد الآخرين بإمكانية حصول مثل هذا السيناريو الذي هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع؟ أم أنه يقصدها فعلا ويعتقد أنها ممكنة وقابلة التحقيق؟ أو أنه قد يقصد الاثنين معا؟ أم أنه يريد أن يلفت انتباه العراقيين إلى هذا الأمر كي يضعوه في حسبانهم مستقبلا؟ أم أنها مجرد فكرة عابرة طرأت على تفكير شخص حدث صدفة أنه مسئول إيراني رفيع؟ لست متخصصا في السياسة والثقافة الإيرانيتين، على رغم أنني زرت إيران مرتين عامي 2003 و2004 ضمن وفد رسمي عراقي، ولن أدعي معرفة التفكير الإيراني في العمق، على رغم متابعتي للشأن الإيراني منذ مطلع السبعينيات، لما له من تأثير على الأحداث في العراق والعالم. كما أدرك تماما أن هناك ما يشبه الهوس عند العراقيين خصوصا والعرب عموما في الخوف من إيران والتشكيك بنواياها وهذا يشمل جميع الطوائف والقوميات والمناطق وقد تكون له أسبابه التأريخية والقومية والسياسية والاقتصادية والثقافية وربما الدينية، ولا أنزِّه نفسي عن التأثر به على رغم ادعائي العقلانية والموضوعية، فالإنسان ابن بيئته ويبقى هكذا، بدرجات متفاوتة طبعا، حتى لو حاول التفكير بعيدا عنها وخارجها.

 وبعد هذه المقدمة (الضرورية) أتساءل هل يدرك الإيرانيون حجم انعدام الثقة بينهم وبين العراقيين الذي يمتد على مدى التأريخ؟ وهنا أقصد العراقيين جميعا وليس طائفة منهم قد تكون أكثر صخبا في إعلان شكوكها بإيران. هل يعتقدون حقا أن مجرد كون المرء شيعيا يؤهله لأن يوالي إيران أو يحصِّنه ضد الشك بنواياها السياسية والثقافية والاقتصادية؟ لا أعتقد ذلك لأن الإيرانيين شعب متطور ثقافيا ولديهم مراكز دراسات وأبحاث وجامعات عريقة وهذا يمكّنهم من أن يعرفوا جيدا كيف يفكر جيرانهم من عراقيين وأتراك وأفغان وباكستانين وخليجيين وتركمان وآذربيجانيين، الذين يرتبطون قوميا مع الآذربيجانيين الإيرانيين الذين يشكلون 40% على الأقل من سكان إيران، ومع باقي الإيرانيين مذهبيا كونهم شيعة، لكنهم مع ذلك لا يثقون بإيران سياسيا وليس أدل على ذلك من وقوفها إلى جانب أرمينيا في نزاعها مع آذربيجان حول إقليم ناغورني قره باخ. إن لم يدرك الإيرانيون مشاعر انعدام الثقة (وهذا ألطف تعبير يمكن استخدامه هنا) عند العراقيين تجاههم فهم لا يعرفون شيئا عن العراق. العراقيون، كل العراقيين وليس طائفة منهم، لا يخشون دولة أو قومية أو ثقافة أكثر من الإيرانية، ليس الآن فحسب بل على مر الأزمان، لذلك فإن دعوة إيران العراق إلى الوحدة تدعو حقا إلى السخرية وشر البلية ما يضحك.

 لكن هذا لا يعني أن قدر العراق وإيران أن يكونا دائما متخاصمين يتربصان ببعضهما الدوائر، بل هناك الكثير مما يجمعهما ويقربهما إلى بعض كدولتين قادرتين على بناء شراكة حقيقية. ولكن هذه الشراكة يجب أن تبنى على أسس سليمة كي تصمد أمام عاديات الزمن، وهذه الأسس تبدأ بإدراك الإيرانين، مثقفين وسياسيين ورجال دين، أن هناك هوية وثقافة عراقيتين تختلفان جذريا عن الهوية والثقافة الإيرانيتين وأنهما لا تصطبغان دائما بالعقائد والقناعات الدينية ولا تقومان على أساس المواقف السياسية المتغيرة. بإمكان الإيرانيين أن يتفاعلوا مع الثقافة العراقية وأحسب أن كثيرين منهم فعلوا ويفعلون ذلك، وأولهم هو المرشد علي خامنئي الذي يجيد العربية إجادة تامة، بالإضافة إلى شخصيات أخرى مؤثرة كالشيخ محمد علي التسخيري والشيخ محسن الآراكي ورئيس السلطة القضائية السابق محمود الهاشمي، الذي يتحدر من أصول عراقية عربية، لكنه اضطر تحت ضغوط الهوية والثقافة الإيرانيتين أن يغير اسمه إلى الشاهرودي كي يكون مقبولا إيرانيا، تماما كما فعل عراقيون من أصول إيرانية وغيَّروا ألقابهم كي تتماشى مع الثقافة والمزاج العراقيين. بإمكان الإيرانيين أن يتفاعلوا مع الثقافة العراقية، ولكن عليهم أن يدركوا أن هذه الثقافة أصيلة وراسخة ولن تتقبل يوما أن يكون العراق جزءا من دولة أخرى. كما لن يقبل العراقيون أن يكونوا جزءا من أي دولة أخرى حتى لو اشتركوا معها بخواص أخرى كالقومية واللغة ولهذا فشلت كل محاولات (الوحدة) مع دول أخرى رغم أن هناك من اعتاش على هذا الوهم لعقود من الزمن. الإيرانيون بحاجة إلى البرهنة أولا على احترام الثقافات الإيرانية الفرعية، والعربية تشكل إحدى أهمها، والسماح للإيرانيين العرب وغيرهم من القوميات غير الفارسية أن يمارسوا ثقافاتهم المختلفة ويتعلموا بلغاتهم كي يمكن العراقيين وغيرهم أن يصدقوا فعلا أن التقارب مع إيران لا يشكل مخاطرة كبيرة.

 لقد عاش العراقيون والإيرانيون جنبا إلى جنب مئات السنين واقتربوا من بعضهم أحيانا حد التماهي، فما أكثر الإيرانيين الذين تأثروا بالثقافة العراقية وأثروا فيها، وتأريخنا يزخر بالإيرانيين الذين أسهموا مساهمات فعالة في الثقافة العربية بعد اندماجهم فيها، والعكس صحيح. لكن إيران والعراق كانا وسيبقيان دولتين متجاورتين تعيشان ضمن ثقافتين مختلفتين مهما تقاربت المصالح أو تطابقت المواقف السياسية. الثقافة العراقية حافظت على أصالتها عبر التأريخ وبرهنت أنها تأبى الإندماج أو الانصهار.

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/394848