المدى: 6/5/2012
الجميع يتحدث عن الاجتماع، أو الملتقى أو المؤتمر الوطني ويعول عليه أن يحل خلافاته مع الطرف الآخر. ولكن ما هو هذا المسمى بالوطني الذي يمتلك مثل هذه العصا السحرية لحل الخلافات؟ وكيف يفعل ذلك والفرقاء لم يتفقوا حتى على اسمه؟أليس هو اجتماعا قد خلت من قبله اجتماعات كثيرة وكلها أدت إلى اتفاقات لم تفضِ إلى نتيجة؟ لِمَ يعتقد الفرقاء أن هذا الاجتماع الوطني سيكون الأخير بحيث أنه يحل كل المشاكل هذه المرة والتي لم تحلها الاجتماعات السابقة؟ إن كانت اتفاقية أربيل المكتوبة التي وقعها أهم ثلاثة زعماء في العراق اليوم لم تحل المشكلة فكيف باجتماع جديد يأتي على خلفية كل هذه التناحرات التي جرت خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية أن يحل ما عجزت عنه كل الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات السابقة؟ 
 
القضية أعمق من أن تحل في اجتماع واحد وأعقد من أن تجعلنا نلتزم بما نتفق عليه. والعقدة تكمن في التفكير الإقصائي الإلغائي للسياسيين عندنا والخوف من الآخر المستشري عند القادة والذي دفع ببعض المعارضين منهم إلى مغادرة البلاد. لا أحد يريد إشراك الآخرين بما لديه ولا أحد يقتنع بسلطة الآخر عليه أو حقه في معارضته. منذ تأسيس الدولة عام 1921 وسياسيونا يتآمرون على بعضهم البعض وينكثون بالعهود والمواثيق التي يوقعونها مع بعضهم ومع الآخرين. إنها مشكلة ثقافة لا تقبل التعايش والتنازل والقبول بسلطة الآخر ولا ترضى إلا بالغلبة والهيمنة المطلقة. 
 
لقد لجأنا إلى كل الأساليب غير القانونية وغير الأخلاقية في الانتخابات من أجل إسقاط الآخر وتسقيطه واستخدمنا الدين والمذهب ضد بعضنا البعض وافترينا زورا وبهتانا ضد بعضنا البعض ومزقنا صور بعضنا البعض وأصدرنا بيانات تزور مواقف بعضنا البعض وتكفر بعضنا البعض وتفتئت على بعضنا البعض، وكل هذه (الجهود) من أجل أن نلحق الهزيمة ببعضنا البعض وتلك الانتخابات البرلمانية والمحلية خير شاهد على عدائنا لأنفسنا. لقد زوّر كثيرون منا التأريخ واخترع له سجلا كاذبا كي يغش أبناء وطنه ويحصل على مكاسب على حساب الآخرين هو يعلم أنه لا يستحقها، بينما زوّر آخرون شهادات ومواقف من أجل الغرض نفسه. كيف نتوقع من مزورين ومخادعين أن يسيروا بنا إلى الأمام وينجحوا في بناء دولة جديدة؟ والوصف هنا لا يشمل الجميع ولكن ما زال هناك مزوّرون ومخادعون في مراكز القيادة فإن بلدنا ليس بخير.
 
تأريخنا مليء بالغدر والدجل والكذب والافتئات والتلفيق والتزوير والحروب الباردة والمحرِقة ونحن أسرى لهذا التأريخ بل إن كثيرا من أفعالنا تزيد الطين بلة وتصب الزيت على النار من أجل أن تستمر المعركة الطاحنة كي تقضي علينا جميعا. ألسنا نحن من نردد القول (المأثور) ” عليّ وعلى أعدائي يارب”؟ ألم نزل نتذكر ونكرر قول أحدنا قبل 1400 عام (أقتلوني ومالكا)؟ بإمكاننا أن نتحرر من قيود الماضي ونبني حياة جديدة لكن مجرد هذا التفكير يحتاج إلى تضحية والتضحية هنا ليست بالنفس أو المال بل بالتخلي عن ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر وإلحاق الهزيمة به. يجب أن يكون للآخر مكان بيننا، الآخر المختلف أو المخالف أو الخاطئ وربما المسيء في نظر البعض. هذه الثقافة ليست غريبة علينا كليا، وهناك أمثلة من التأريخ لأولئك المغرمين بالماضي والسلف الصالح يمكننا أن نقتدي بها. وهناك أيضا دول أخرى عربية وإسلامية لا تزال تحترم الآخر (المسيء أو المخطئ) في نظر الحاكم. 
 
عشت في السودان عاما كاملا ورأيت أن المعارض والحاكم يعيشان معا في منطقة واحدة ودون أدنى درجات الحماية الشخصية ورأيت كيف يخرج المعارض ليصف الحاكم بأقذع الأوصاف ويعود إلى منزله دون خوف وإن (زيّدها حبّتين) كحسن الترابي، فإنه ربما يوضع تحت الإقامة الجبرية لبضعة أيام أو يؤخر في المطار لبضع ساعات أو حتى يمنع من السفر أسبوعا أو شهرا من الزمن، وهو ظلم دون شك ولكن ليته ساد عندنا أيضا. لماذا يتمكن السودانيون من فعل هذا بينما نعجز نحن؟ لماذا هذا الولع والوله بإلحاق الهزيمة بالخصم وتحقيق النصر المؤزر عليه؟ ألا يفكر من في السلطة الآن ومن يرغب في توليها غدا أنه هو أيضا سيكون يوما في الجانب الآخر… في المعارضة والمخالفة و(الخطأ أو الإساءة)؟ أليس هناك من الكبار من يرغب في بناء دولة جديدة على أساس العدل والتسامح بدلا من الظلم والتناحر ويضرب مثلا في التسامح والصفح لأجيالنا الجديدة أم أننا سنبقى هكذا نكرر الأخطاء والخطايا إلى يوم يبعثون؟ 
 
الأوطان تبنى بالتعاون والإيثار والتسامح والصفح عن المسيء وتغليب المصلحة العامة على الخاصة إن حصل تضارب بينهما وليس ضروريا أن يكون هناك تناقض بين الاثنتين إن كان سعي السياسيين دائما نحو خدمة الآخر وهذا هو المعنى الأول للعمل السياسي: التنازل عن الخاص من أجل خدمة العام. والدول المتقدمة تبنى بالعدل والقانون والتعليم وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين وليس بالمحسوبية والمنسوبية والرشوة والواسطة والتمييز السائدة عندنا.
 
اللقاء (الوطني) سوف ينجح إن كان هناك تصميم على التغيير والنجاح واعتراف بالأخطاء التي ارتكبها كل منا وعزم على مغادرة الماضي إلى المستقبل، أما إذا كان التوجه هو نفسه: إنكار الأخطاء ولوم الآخر ومحاولة التغلب عليه واقتلاعه من جذوره فإن المؤكد أن الفشل سيكون حليف هذا اللقاء أو الاجتماع لأن الآخر لن يُلغى ولن يُقتلع من جذوره، مما يعني أن المشكلة ستبقى وتتفاقم.