الحياة, 26 أبريل 2012
من يتمعن في الأزمة السياسية العراقية المستعرة منذ نهاية العام الماضي يدرك من دون عناء في البحث أن القادة السياسيين الحاليين ما زالوا مبتدئين في عالم السياسة وإدارة الدولة وهم في الحقيقة، خلافاً لمدعياتهم المعلنة، لا يؤمنون بالتعايش السلمي والقبول بالاختلاف السياسي، بل بإخضاع الآخر وإلحاق الهزيمة المنكرة به والاستحواذ على مساحته في السلطة والنفوذ، بينما يتطلب العمل السياسي الناجح التخلي عن بعض المتبنيات الفكرية والسياسية وتقديم التنازلات للخصوم والقبول ببعض متبنياتهم بهدف التوصل إلى برنامج مشترك يخدم الحد الأدنى من الأهداف السياسية للأطراف المختلفة التي يفترض أنها تخدم عموم الشعب.

الإسلاميون الشيعة، المهيمنون على الحكم حالياً، يصرون على أن لا حل للأزمة السياسية إلا عبر مثول نائب الرئيس، الإسلامي السنّي طارق الهاشمي، المتهم بقضايا تتعلق بالإرهاب، أمام القضاء، ولم يتزحزحوا عن هذا الموقف قيد أنملة منذ اندلاع الأزمة أواخر العام الماضي حتى الآن. مقابل هذا الموقف المتشدد، يرى خصومهم من السنّة والأكراد والعلمانيين أن لقضية الهاشمي بُعدين: سياسي أولاً وقضائي ثانياً، وما زال البعدان متلازمين أو مرتبطين ببعضهما البعض، فإن بإمكان الثاني أن يُحل عبر الاول وليس قبله وأنهم لا يثقون بالقضاء لأنه غير مستقل ما زال يحكم لمصلحة الحكومة ضد خصومها في كثير من القضايا.

لكن القضية لم تتوقف عند ذلك، بل اتخذت أبعاداً أخرى عراقياً وإقليمياً ودولياً. عراقياً، انسحبت قائمة «العراقية» من الحكومة والبرلمان احتجاجاً على اتهام الهاشمي بالإرهاب وإبعاد نائب رئيس الوزراء صالح المطلك ومطالبة البرلمان بسحب الثقة منه. لكن «العراقية» لم تصمد طويلاً، بل عادت إلى الحكومة والبرلمان ولم يكن ذلك مستغرباً بل المستغرب هو إقدامها على الانسحاب أساساً والذي لم يجدِ نفعاً في السابق عندما انسحبت، فلم تسقط الحكومة أو تغير نهجها. لماذا تكرار التجربة الفاشلة في وقت يدرك قادة القائمة أنه لا جدوى لأي تحرك إلا عبر التفاعل مع الكتل السياسة الأخرى المشاركة في الحكومة والتوصل إلى حلول ترضي الأطراف المختلفة؟ الدرس الذي يجب أن يتعلمه الجميع هو أن السعي لإلحاق الهزيمة بالآخر لن يجدي نفعاً لأن الآخر لن يهزم كلياً، بل قد يؤدي استهدافه إلى تجميع قواه ومؤيديه. عراقياً أيضاً، ساءت العلاقة بين إقليم كردستان والمركز إلى درجة لم تصلها سابقاً واشتدت الخلافات حول قضايا كثيرة، أهمها النفط طبعاً، وتبودلت الاتهامات من الطرفين حول السماح بتهريب النفط إلى الخارج في مخالفة للقوانين والضوابط، وقد ذهب أحد النواب الأكراد إلى اتهام الحكومة ببيع النفط لإسرائيل، وهو اتهام لا يصمد أمام الدليل لأن لا الحكومة ولا إسرائيل بحاجة إلى النفط المهرب.

إقليمياً، قام نائب الرئيس الهارب بزيارة إلى قطر والسعودية وتركيا واستقبل هناك بصفته الرسمية، فهو على رغم اتهام القضاء العراقي له بالإرهاب، لا يزال نائباً للرئيس في نظر الكثيرين، بينما قام رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، بزيارة إلى واشنطن لبحث الازمة العراقية مع المسؤولين الأميركيين، بما في ذلك احتمال إعلان الدولة الكردية التي قال إن الوقت لم يحن بعد «لزف مثل هذه البشرى إلى الشعب الكردي»، وقد أشارت مصادر إلى أن الأميركيين أنفسهم نصحوا البرزاني بالتريث في إعلان الدولة.

أما الحكومة المركزية في بغداد فقد اعتبرت استقبال الهاشمي عربياً وإقليمياً تدخلاً في الشؤون العراقية وطالبت مرة أخرى بتسليمه إليها. إلا أنه، إن كان الأمر كذلك، فإن القوى السياسية العراقية نفسها هي التي وفرت الظروف لمثل هذا التدخل عندما عجزت عن حل خلافاتها الداخلية بالحوار وتبنت مواقف سياسية متشددة وطرحت الخلافات السياسية كلها في وقت واحد ما اضطر الحلقات الأضعف فيها إلى الاستقواء بالدول الأخرى ودعوتها للمساعدة.

يبدو أن القوى السياسية العراقية قد اعتادت منذ إسقاط النظام السابق قبل تسع سنوات على تدخل قوى أخرى، إقليمية ودولية، لحل خلافاتها الداخلية، وقد كانت هذه المهمة في السابق من اختصاص الأميركيين. إلا أن انسحاب القوات الأميركية من العراق أواخر العام الماضي وتقلص النفوذ السياسي الأميركي في العراق الذي صاحب تولي الرئيس أوباما السلطة، قد حد من هذا التدخل ومدى قبول العراقيين به. وحتى عندما حاول نائب الرئيس، جوزيف بايدن، أن يتوسط لحل الخلافات العراقية الداخلية، فإنه اصطدم بالمواقف المتصلبة جداً للقادة العراقيين الذين لم يلينوا من مواقفهم إلا عندما وصل مسار تشكيل الحكومة إلى طريق مسدود وعندها قبلوا بالتعايش موقتاً وتوصلوا إلى اتفاق أربيل الذي تشكلت بموجبه الحكومة ذات الاثنين وأربعين وزيراً والتي تقلصت لاحقاً بإلغاء معظم وزارات الدولة. إلا أن المشاكل سرعان ما عادت إلى السطح مجدداً حول الكثير من القضايا، السابقة منها واللاحقة.

لا حل للأزمة الحالية على ما يبدو إلا عبر الطرق السياسية، حتى وإن اعتقد البعض بقوة أن هناك تهماً بالإرهاب يجب أن يتصدى لها القضاء، فما أكثر التهم القضائية التي رفعت بإرادة سياسية والشواهد كثيرة ومعروفة. السياسة فن الممكن ومن لا يستطيع العمل بهذا المبدأ لن ينجح والفشل السياسي في العراق اليوم سيكون كارثة على الجميع خصوصاً الطوائف التي يحكم باسمها سياسيو اليوم. كان السياسيون العراقيون سابقاً يحكمون باسم أنفسهم أو أحزابهم ومن يفشل منهم ينتهي ويتحمل هو شخصياً أو حزبه هذا الفشل. الأحزاب الفاشلة عادة ما تنسحب من العمل السياسي أو تضطر إلى ذلك وتتحمل وزر فشلها فيتقلص تأييدها ونفوذها. لكن على الذين يحكمون باسم الطائفة أن ينصتوا إلى باقي أبنائها على الأقل، لأن فشلهم يعني فشلها وهذا سيلاحق الجميع على مر الأزمان ومن هنا تأتي خطورة تمثيل الطوائف في الحكومة إذ لا يستطيع شخص أو حزب أن يدعي تمثيل طائفة بكاملها. العمل السياسي يتطلب أحزاباً وطنية تتبنى برامج سياسية واقتصادية عملية ولا تتدخل في عقائد الناس ومتبنياتها الدينية أو الفكرية أو حرياتها الشخصية. مثل هذه الأحزاب ستجد لها من يؤيدها من جميع الطوائف والمناطق والأديان والتوجهات الفكرية، وعندما يتمكن أحدها من الوصول إلى السلطة، فالمتوقع منه أن يسعى الى تنفيذ برنامجه المعلن فإن فشل في هذا المسعى سيلجأ مؤيدوه إلى تأييد حزب آخر منافس له. يبدو أن العراق لا يزال بعيداً عن مثل هذا السيناريو الذي يعتبر أساسياً للعملية الديموقراطية.