الحياة اللندنية-الجمعة, 09 مارس 2012

 التداخل بين الديني والسياسي ليس جديداً، بل عانت منه المجتمعات الغربية كثيراً في السابق، أثناء سيطرة الكنائس على مقاليد السلطة ولاحقاً بعد ظهور اليمين المتشدد (المتدين) في الولايات المتحدة وبريطانيا إبان حكم رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر في الثمانينيات، والذي اتخذ أسماء عدة، منها مثلاً: «الأغلبية الأخلاقية»، أو الائتلاف المسيحي في الولايات المتحدة، أو تيارات محافظة قوية داخل أحزاب عريقة، يسارية ويمينية في أوروبا. وفي تلك الفترة، برزت مخاوف جديدة بين المفكرين والسياسيين المعنيين باستقرار المجتمع وتقدمه من اختلاط الديني بالسياسي مرة أخرى، وما سيلحق بالمجتمع كنتيجة مباشرة للصراع الذي سينشأ بسبب هذا التداخل. وبسبب استحالة إيمان الناس جميعاً بمذهب ديني أو فلسفي أو أخلاقي واحد، فإن سيطرة أي تيار ديني أو فلسفي أو أيديولوجي على المجتمع يعني بالضرورة اضطهاد أتباع التيارات والأفكار الأخرى، أو على الأقل تهميش دورهم وحرمانهم من كامل حقوقهم، وهذا ما يتعارض مع العدالة ومبادئ النظام الديموقراطي الذي يكفل حقوق الجميع.
 

ومن المعالجات الفكرية لهذه المشكلة الجديدة، التي اعتقد الغربيون أنها أصبحت وراءهم بعد أن تمكنوا من إقناع الكنيسة بفصل الدين عن الدولة، برزت نظريات عديدة، منها نظرية «الليبرالية السياسية» للمفكر الأميركي جون رولز، التي نُشرت أول مرة عام 1985 ثم برزت بشكلها الكامل عام 1993. وكذلك الآراء التي قدمها الفيلسوف المتخصص في الشؤون الدينية، هارلان بكلي، والتي علق فيها على أفكار رولز، متفقاً هنا ومختلفاً هناك، وما كتبه المفكر الأميركي مايكل بري، الذي نشر كتاباً عام 1991 بعنون «دور الدين والقيم الأخلاقية في السياسة الأميركية». وتتلخص نظرية رولز بضرورة إشراك المتدينين في الحوارات والشؤون السياسية، لأنهم يشكلون شريحة مهمة في المجتمع لن تختفي عبر تجاهل السياسيين لها.

ومن التبريرات التي ذكرها رولز لضرورة إشراك المتدينين في الحوار السياسي دون الإضرار بالآخرين، أن هناك مميزات للمجتمع العصري يجب أن تقوم عليها كل المعالجات المطروحة لمشاكله. ومن أهم هذه المميزات التعددية، فالمجتمع الحديث، وبسبب طبيعة الحياة الحديثة، المعتمدة بشكل أساسي على التكنولوجيا المتطورة ووسائل الاتصال العصرية، وبسبب تنوع التجمعات المدنية الكبيرة، ثقافياً واجتماعياً، فإنه لم يعد مستعداً لقبول سيادة فكر أحادي، دينياً كان أم فلسفياً أم أخلاقياً.

أما الميزة الثانية للمجتمع العصري، فهي معارضته الاضطهاد، لأنه يتنافى مع مبادئ العدالة والديموقراطية. يقول رولز إن المجتمع يدرك جيداً أن سيادة أي مذهب ديني أو أخلاقي لن تحصل إلا عبر اضطهاد أتباع المذاهب الأخرى من خلال استخدام أدوات السلطة لقمع المعارضين وتهميشهم، وليس من الحق أو العدل أن تمارس الدولة الاضطهاد بحق مواطنيها، إذ أصبح هذا مرفوضاً في كل المجتمعات العصرية. وبسبب وجود التعددية، فإن هؤلاء المواطنين، الخائفين أصلاً من الاضطهاد، لن يسمحوا بهيمنة أي مذهب ديني أو أيديولوجي أو فلسفي على المجتمع، بل سيعارضونه بقوة.

والميزة الثالثة التي وضعها رولز للمجتمع العصري، هي السعي نحو العدالة. ومن أجل أن يسود مبدأ العدالة ويدوم، فإنه يتوجب أن يؤيده الناس جميعاً برغبتهم ومحض إرادتهم. وبسبب تأصل التعددية في المجتمع، فإن مبدأ العدالة لن يتحقق إلا عندما تؤيده كل المذاهب والتيارات الدينية والأخلاقية والفلسفية المتنافسة والمتعارضة، من أجل أن يشكل القاعدة الأساسية لمجتمع دستوري متعدد ومستقر.

ويقسِّم رولز المجتمع إلى ثلاثة أنواع: الأول هو مجتمع منضبط وملتزم بالنظام ولا يعاني الانقسام. في هذا المجتمع، هناك ضرورة لأن تبقى القناعات الدينية خارج الشؤون السياسية كلياً. والنوع الثاني هو مجتمع منضبط وملتزم بالنظام أيضاً، لكنه يعاني من انقسام خطير حول تطبيق مبدأ من مبادئ العدالة. وهنا يرى رولز أن بالإمكان أن تتبنى الدولة بعض الشؤون الدينية، كدعم المدارس الدينية مثلاً، مع إبقاء الشؤون الدينية الأخرى خارج إطار الحوار السياسي. أما النوع الثالث، فهو مجتمع غير منضبط وغير ملتزم بالنظام، وفي الوقت نفسه يعاني انقسامات حادة حول ما سماه بـ «الأساسيات الدستورية». وفي هذا المجتمع، يجب النظر إن كانت القناعات الدينية للفرقاء منسجمة مع الحكمة والمصلحة العامة، بحيث إن السماح بها لا يتعارض مع القناعات الدينية أو الأخلاقية الأخرى.

ويؤيد هارلان بكلي آراء رولز هذه، ويقول إنه يجب الحد من استخدام المتدينين لخطابهم الديني الذي يستبطن سلطة دينية ومعنوية لإخضاع الآخر. لكنه يضيف أن الديانة المسيحية تعلّم الإنسان الحب الروحي للآخر، الذي يحصنه ضد التفرد والولع بالسلطة السياسية. وهذه مسألة جدلية من دون شك، فكل الاديان تحبذ الحب وتدعو إلى السلام والوئام نظرياً، لكن المشكلة هي أن حاملي الفكر الديني يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة وسلطة فرض أفكارهم وفهمهم للدين على الآخرين بالقوة ويؤمنون أن سلطتهم هذه مستمدة من الله.

المجتمع الحديث إذاً، قائم على الاختلاف والتنوع، وذلك لعدم إمكانية هيمنة مذهب ديني أو فلسفي أو سياسي واحد بسبب تعدد الأفكار والأذواق واختلاف المصالح وانتشار الأفكار والعلوم عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة. والتعددية هي ليست مجرد صفة للمجتمع الحديث، بل هي ضرورة من ضرورات قيامه وسعادته، فبها يتمكن المتدينون وغير المتدينين من أن يعيشوا بسعادة واستقرار، وفي غيابها يسود الاضطهاد الذي طالما عاني منه الطرفان عبر التاريخ.

وخلاصة القول، أن بإمكان أي مجتمع أن يعيش حياة مستقرة وسعيدة إن هو تبنى المشترَكات بين افراده وترك الأمور المختلف عليها، كالقناعات الدينية والأخلاقية والفلسفية، كي ترعاها مؤسسات المجتمع المدني التي تشكل ركناً أساسياً من أركان المجتمع الديموقراطي. مجتمعاتنا العربية تتجه الآن نحو حكومات قائمة على الفكر الديني، وقد بدأنا نسمع في كل من العراق ومصر وتونس وليبيا دعوات لفرض أفكار وأنماط سلوكية لفئة معينة من المجتمع على الفئات الأخرى وإقصاء الخيارات والأفكار المخالفة أو قمعها أو تهميشها. مثل هذه الدعوات، إن قُدِّر لها أن تجد طريقها إلى التنفيذ، فإنها ستقود إلى موجة جــديدة من العنف والعنف المضاد الذي يضر الناس جميعاً ويبقي المنطقة العربية قلقة ومتخلفة، فهل هذا هو ما تسعى إليه الأحزاب الدينية العربية؟

 

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/371914