المدى-3 آذار 2012
على نحو ما، أصبح ما اعتاد الجميع على تسميته بـ”العملية السياسية” ثابتاً عراقياً جديداً في بلدٍ تعصف فيه التغيرات، السلبية غالباً. يختلف فرقاء السياسة في العراق على كل شيء تقريباً، على ماهية البلد، وشكله، وهوية خصومه وحلفائه، والأفكار التي ينبغي أن تديره، ومظالم تاريخه وهواجس حاضره  وآفاق مستقبله وغيرها. لكنهم يتفقون على أمر واحد هو “العملية السياسية”  وأهمية مواصلتها، برغم عمق خيباتها.… في هذه اللحظة الراهنة، لحظة الافتراقات العراقية-العراقية المخيفة ، ليس ثمة ما يجمع خصمين لدودين  مثل نوري المالكي وإياد علاوي،  كالحفاظ على “العملية السياسية” وكأنها خشبة الخلاص العراقي الوحيدة التي يمكن أن يركبها فرقاء الوطن ويتصارعون عليها حتى الغرق.  هكذا أصبحت العملية السياسية: ضرورة وجودية تقترب أهميتها من ضرورة الوطن نفسه، وأصبح الخروج عليها شبيها بالخروج على معنى الوطنية.
عندما برز مصطلح العملية السياسية في صيف ٢٠٠٣ وترسخ تدريجياً كحقيقة محورية في العراق الجديد، اتسم بقدر كاف ومفيد من الوضوح. كان خطاً فاصلاً  بين “متهوري” الحلول المسلحة من إسلاميين وقوميين رافضين  تماماً للوجود العسكري الأميركي وحقائقه على الأرض و”عقلاء” الحلول السلمية من ساسة الداخل والخارج الذين أصروا على أن المخرج من “الاحتلال” هو خارطة طريق سياسية تفضي إلى استقلال حقيقي يقوم على تشكيل نظام سياسي جديد يدير البلد على أساس التداول الديموقراطي للسلطة. بدت هذه العملية حينها حاملة ً أملا واسعاً  في حل معضلة السلطة في العراق الحديث عبر أخراج هذه الأخيرة من أقبية الاستئثار المحصنة بالرعب البوليسي إلى علانية السياسة ومناوراتها الديموقراطية المحمية بثبات المؤسسات وحيادها. في تلك الخارطة كانت المحطات عموماً واضحة ومترابطة ومنطقية، زاوجت بين كتابة الوثائق وتشكيل المؤسسات: صياغة قانون دولة انتقالي واختيار حكومة مؤقتة ثم انتخاب برلمان انتقالي لكتابة دستور دائم  ثم الاستفتاء عليه فانتخاب برلمان وحكومة ثابتين بفترات دستورية محددة، وصولاً إلى بناء قوات مسلحة وأمن داخلي مهنية وغير مسيسة تحافظ على سلامة البلد وتحمي نظامه السياسي لتسمح أخيرا بإنهاء الوجود العسكري الأميركي فيه… ما أعطى هذه العملية السياسية شرعيتها الأخلاقية ودفقها المعنوي هو قبول شعبي واسع بها، فعلى نحو صائب اصطف غالبية العراقيين مع خيار “عقلاء” السياسة لا مع “ثوار” السلاح .
 
في ربيع عام ٢٠٠٨، كان قطار العملية السياسية قد قطع معظم هذه المحطات بنجاح نسبي، خصوصاً  بقضاء  الدولة العراقية الناشئة على التهديد الداخلي الأكبر للعملية السياسية، عندما استطاعت، بمساعدة حلفائها الأميركيين والبريطانيين، تهميش المُتحَدِّيين الأشرس لشرعيتها وقدرتها على ممارسة سلطتها: تنظيم القاعدة والميليشيات الشيعية. قد تكون الستة عشر شهراً الممتدة بين ربيع  ٢٠٠٨ وصيف ٢٠١٠ الفترة الأفضل للعملية السياسية. في أثنائها، ساد البلد استقرارٌ أمني غير مسبوق منذ ٢٠٠٣ وإن كان نسبياً، وتراجعت حدة الخلافات السياسية وشراسة الصراعات الناشئة عنها، وتواصل بناء مؤسسات الدولة، وبرزت في الأفق بوادر شعبية وسياسية جادة لتفكيك الطائفية السياسية والمضي في مشروع بناء الدولة المدنية. في صيف ٢٠١٠ بدا وكأن العراق على الطريق الصحيح أخيرا وأن العملية السياسية كانت الخيار الصائب لقيادة البلد (كم كان رائعاً ذلك الوهم حينه).  ثم، في نهاية ذلك الصيف، جاءت المعركة الانتخابية والانفجارات الشهرية الكبرى التي استهدفت مؤسسات الدولة (وزارات الخارجية والعدل والمالية) لتقوض السياسة والأمن معاً وُتُعيد العملية السياسية إلى محطات سابقة قطعتها، محطات الخوف والتخوين وكسر عظم الآخر.
 
عندما تبخرت مع دخان هذه الانفجارات آمال المالكي بتجديد انتخابي سهل لرئاسته بعد اهتزاز الثقة الشعبية بإدارته ملف الأمن، وعندما بدا واضحاً أن علاوي أصبح تحدياً انتخابياً شرساً بعد نجاحه فيما فشل فيه المالكي: بناء تحالف سياسي واسع ومتنوع وعابر للطوائف لخوض الانتخابات، كان جواب التحالف الشيعي الحاكم المرتعب من خسارته السلطة هو إحياء أشباح البعث ليدور جدل الانتخابات حول صراع الطوائف ومخاوف الماضي بدلاً من سجل الأداء الحكومي وآفاق المستقبل. حينها، أي بشتاء ٢٠١٠، دخلت العملية السياسية نفقها المعتم الحالي. منذ ذلك الشتاء الكالح سياسياً، انتقلت هذه العملية من إخفاق إلى آخر. علاوي كان العلامة الفارقة في إخفاقها الأكبر، عندما اختبر الرجل بفوزه غير المتوقع بالانتخابات البرلمانية عمقَ التزام هذه العملية بمعنى الفوز الانتخابي والتداول الديموقراطي للسلطة.  
 
منذ أربيل ٢٠١٠ استنفدت العملية السياسية أغراضها بقطعها كل المحطات التي كان بوسعها قطعها. صحيحٌ أن إنجازاتها القصوى لم تتعد أنصاف النجاحات  في أحسن الأحوال: دستور تتجاور فيه المتناقضات ويزدهر فيه الغموض، وحياة سياسية تتمحور حول قلق الطوائف وطموح العشائر، وقوات مسلحة وجهاز حكومي تتقاسمهما حصص المكونات وقرابات الايدولوجيا والمنطقة والقبيلة، وصحافة مفتوحة خائفة على حريتها المهددة بالانكماش. رغم الخيبة من هذا التعثر المُزمن، كان ثمة أمل معقول انه سيمكن، في يوم ما، إصلاح المعطوب من أنصاف النجاحات هذه. لكن المحطة الوحيدة، وربما الحاسمة والأخيرة، التي لم تحقق فيها العملية السياسية حتى نصف نجاحها المعتاد، بل أخفقت فيه على نحو فادح من دون أمل في إصلاحه، هو تثبيت التداول الديموقراطي للسلطة عبر ممارسته في لحظة استحقاقه الحقيقية.  أطاح اتفاق أربيل بهذا المبدأ فعلياً. منذ ذلك الإخفاق، لم تستطع العملية السياسية أن تخرج من أزمتها الحادة التي لم تنقطع منذ خريف ٢٠٠٩ . يكمن جزء كبير من هذه الأزمة في تركة ذلك الإخفاق والمشاكل التي تمخضت عنه وبقيت دون حل. أخلاقيا، أثبتت العملية السياسية أنها تعيش خارج زمنها الشرعي، لأنها تدور حول مصالح الساسة وليس بناء الدولة . ولأول مرة، ليس الإرهاب أو التمرد طرفاً رئيسياً في أزمتها، فالأطراف الرئيسيون هم “عقلاء” السياسة أنفسهم. ولأول مرة أيضا تصبح العملية السياسية نفسها هي المشكلة وليس الحل، بعد أن استنزفت نزاعاتها المستمرة  والعقيمة حياة الناس وأحرقت آمالهم، وأوقفت زمن البلد وأعطبت روحه. باختصار مؤلم، فقدت هذه العملية السياسية شرعيتها الأخلاقية والشعبية لأنها فرطت بالناس ومصالحهم، وفقدت تعاطفهم، وأخذت من أرواحهم وأحلامهم أكثر بكثير مما أعطتهم.
 
  يحتاج العراق  إلى عملية ديموقراطية  شفافة وواضحة المعالم، وليس عملية سياسية أنانية وملتبسة الأهداف. الفارق بين الاثنتين شاسع. الأولى هدفها بناء الديموقراطية على أساس وثائق الدولة ومؤسساتها، بعكس الثانية التي تُسِّخر الوثائق والمؤسسات لصالح الأقوياء فيها، وترعى مصالح الساسة والطوائف أكثر من رعايتها مصالح الناس والبلد. حان الوقت لدفن العملية السياسية  والبدء بالعملية الديموقراطية.