الحياة اللندنية
2007-02-06
كيف يمكن تنمية الإعلام الحر المستقل المحايد في العالم العربي؟ وهل الأمر متوقف فعلا على معرفة سبل تلك التنمية أم على وجود نية صادقة للقيام بذلك لدى الجهات العربية المسؤولة وبالتحديد الجهات الحكومية؟ الطريق إلى التنمية الإعلامية معروف وقد سلكته دول أخرى على مر الزمن الماضي من دول أوروبا الغربية وأميركا خلال القرون الثلاثة المنصرمة إلى اليابان وجنوب شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين إلى دول أوروبا الشرقية في التسعينات من القرن الماضي. وكل دولة أرادت أن تنفتح على العالم وتتطور سعت إلى تحرير إعلامها من تدخل الحكومة، فلا سبيل إلى التقدم من دون وجود إعلام حر مستقل يتمتع بضمانة دستورية وحماية قانونية. غير أن دولنا العربية، باستثناءات قليلة متفاوتة في ما بينها في درجة الحرية المسموح بها، لم تسع إلى إيجاد وسائل إعلام حرة ومستقلة أو إلى حماية وسائل الإعلام الخاصة الساعية نحو الاستقلال، بل رأينا محاولات في الاتجاه المعاكس في بعض الدول، من اغلاق لمكاتب القنوات الفضائية والصحف المستقلة إلى اعتقال صحافيين وكتّاب إلى استهداف الصحافيين أو عدم توفير الحماية لهم من القتل والاغتيال في العراق على وجه التحديد.
 
«تنمية الإعلام العراقي وحرية التعبير» كان عنوانا طموحا لمؤتمر عقد في باريس مطلع الشهر الماضي نظمته هيئة الاتصالات والإعلام العراقية (المستقلة) وشارك فيه إعلاميون وسياسيون بارزون، عراقيون وعرب وأجانب، بالإضافة إلى ممثلي منظمات دولية وآخرين. لكن عنوان المؤتمر شيء وواقعه شيء آخر، فلم يرتق المؤتمر، في نظر كثيرين ممن حضروا وشاركوا، إلى عنوانه، ولم يستفِد من حضور متخصصين وخبراء في الإعلام، ولم يناقش أمورا جوهرية تتعلق بالإعلام العراقي والعربي العامل في العراق. فبعد ثلاثة أيام من المناقشات غير المدروسة أو المبرمجة في أقل تقدير، في مقر منظمة اليونسكو في باريس، لم يتوصل المؤتمرون إلى نتائج متفق عليها أو حتى تصورات مشتركة لمشاكل الإعلام وسبل تذليلها. لم يكن ذلك ممكنا في ظل غياب برنامج مدروس للمؤتمر وقلة البحوث المتماسكة التي طرحت فيه، بل إن بعض المشاركين فوجئوا بوجود أسمائهم ضمن المتحدثين، ولم يعلمهم أحد بأنهم سيشاركون بكلمة قبل أن يطلب منهم التوجه إلى المنصة.
 
ورغم أن الكثيرين من الحاضرين، من العراقيين والعرب والأجانب، كانوا من المتخصصين في الإعلام، إلا أن غالبية الذين طُلب إليهم التحدث لم يكونوا متخصصين وكان بعضهم يمثل جهات سياسية أو إعلامية حزبية أو دينية. قد يفسر المتابع دعوة برلمانيين عراقيين إلى المؤتمر بأنها محاولة لتوضيح تشابكات المشهد الإعلامي لهم كي يكونوا على بينة من تعقيداته ومشاكله، لأنهم هم الذين سيقررون مستقبل الإعلام في التشريعات البرلمانية المقبلة، وقد تفسر دعوة رؤساء تحرير الصحف والقنوات الحزبية والدينية بأنها تهدف إلى إطلاعهم أن المستقبل هو للإعلام الحر المحايد وأن الإعلام الدعائي أو «الرسالي» قد انتهى عمليا ولن تحييه قنوات أو إذاعات أو صحف مهما بلغ حجم الأموال المنفقة عليها أو الجهود المبذولة لتطويرها. إلا أن دعوة متخصصين وذوي خبرة في الإعلام للحضور والاستماع فقط من دون أن يكون لهم أي دور أو رأي بل من دون أن يسمح لبعضهم بالتعبير عن آرائهم هو أمر مريب ومثير للشبهات بقدر ما هو مثير للسخرية ومدعاة للتعجب. وقد دفع هذا الأمر بعض المتخصصين والقائمين على وسائل إعلام مستقلة إلى مغادرة المؤتمر قبل اختتام أعماله مستائين من الطريقة التي أدير بها المؤتمر، ومنهم من حضر إلى باريس ملبيا الدعوة لكنه لم يشارك في أعمال المؤتمر ولم يصل إلى مبنى اليونسكو.
 
دعي إلى المؤتمر خبراء ومتخصصون إعلاميون كثيرون، بينهم رؤساء صحف متميزة ومديرو قنوات فضائية محترمة وكتاب ومفكرون وأدباء وإعلاميون مخضرمون ومديرو أخبار في قنوات مرموقة وكتاب صحافيون من ذوي القدرة والخبرة، ولكن دعونا نتساءل: لماذا لم تستفد إدارة المؤتمر من وجود هؤلاء وتطلب منهم أن يقدموا أوراقا أو مساهمات أو يدلوا بدلوهم في المؤتمر؟ ولماذا لم تسمح هذه الإدارة لمن أراد منهم أن يعبر عن رأيه في ما طرح من أفكار؟ في اليوم الأخير خرج كثيرون عن صمتهم وصرحوا بغضبهم من الطريقة التي أدير بها المؤتمر واستنكروا اتهامات صدرت من «برلماني» عراقي كان يدير إحدى الجلسات بأن «الكثير من الإعلاميين يعملون لصالح أجهزة الاستخبارات الدولية»! وقد أثار هذا الاتهام غضب معظم المشاركين في المؤتمر لأنهم رأوا فيه تجاوزا كبيرا على جهود وتضحيات بذلها ويبذلها إعلاميون كثيرون في العراق تحديدا حيث يواجهون ظروفا صعبة أودت بحياة أكثر من ستين منهم حتى الآن. هناك من اعتبر هذا الاتهام دعوة صريحة للقتل وتبريرا لاستهداف الصحافيين من قبل الإرهابيين وقوى التطرف، خصوصا في العراق الذي لا تتوفر فيه حماية القانون، وتأجيجا لمواقف المناهضين لحرية الصحافة وتحشيدا غير مبرر للرأي العام ضد الإعلاميين.
 
ينسى هذا البرلماني وغيره من السياسيين أنهم لم يبرزوا إلا من خلال وسائل الإعلام ولم تنتشر أفكارهم إلا عندما توفرت الفرص الإعلامية لهم في العراق منذ سقوط الدكتاتورية، وكانوا قبل ذلك لا يطمحون الى أكثر من التحدث في مسجد أو حسينية أو مجلس عزاء ولم تتوفر لهم أي فرصة في أي وسيلة إعلام عربية أو عالمية. وعندما منح هذا البرلماني فرصة أخرى كي يوضح ما قاله، لم يكتف باتهامه السابق بل أضاف اليه اتهامات جديدة للصحافيين منها القتل والاغتيال! وضرب على ذلك مثل أحمد شاه مسعود، رغم أن الكل يعلم أن مسعود قتل على أيدي إرهابيين ادعوا زورا أنهم صحافيون، تماما كما يدعي مختطفو الطائرات أنهم مسافرون عاديون أو الانتحاريون في المساجد والأضرحة أنهم مصلّون وزائرون. وزاد هذا البرلماني على ذلك باتهام من احتج عليه من الصحافيين الذين وقعوا على بيان يدين اتهامه للصحافيين بالعمالة للاستخبارات وبأنهم «بعثيون وصداميون»! رغم أن معظمهم معروف بنضاله الطويل ضد نظام صدام وحزب البعث.
 
كما ينسى هو وغيره أن اتهامات الارتباط بالاستخبارات الدولية تبدأ بالسياسيين قبل الإعلاميين، بل ليس هناك مجال من مجالات الحياة يمكن أن يسلم من رقابة أو ربما اختراق الاستخبارات الدولية. لكن هل يدعونا هذا إلى التشكيك بأي عمل مهني أو متخصص خشية أن يكون نيابة عن أجهزة الاستخبارات؟!
المثير للعجب أن يقدم أي شخص يتمتع بالحد الأدنى من الفطنة والحكمة على توجيه مثل هذه الاتهامات الى شريحة مهمة من شرائح المجتمع أمام مؤتمر ضم أكثر من مئتين من أفراد هذه الشريحة البارزين؟
وجاء البيان الختامي ليدق المسمار الأخير في نعش مؤتمر هيئة الاتصالات والإعلام في باريس. فقد أفصح فيه المنظمون عن الغاية الحقيقية من عقد المؤتمر في التوصيتين الأولى والثانية اللتين طالبتا بـ «استمرار هيئة الاتصالات والأعلام وشبكة الاعلام العراقية»! وليست هناك غرابة في أن تدعو هيئة الاتصالات أو شبكة الإعلام إلى بقائها أو يدعو مديرها للبقاء في منصبه فهذا أمر متوقع ومشروع، لكن كيف تتوقعان من مؤتمر يضم متخصصين أن يفعل ذلك من دون مناقشة أنشطة هاتين المؤسستين خلال الفترة الماضية وإنجازاتهما، إن وجدت، ومبررات استمرارهما، وما تطمحان أن تنجزاه خلال الفترة المقبلة كي تبررا مئات الملايين من الدولارات التي أنفقت عليهما حتى الآن؟ لم يناقش المؤتمر على مدى ثلاثة أيام واجبات ووظائف وإنجازات هاتين المؤسستين على الإطلاق، باستثناء ذكر عابر لحجم الأموال الأميركية المنفقة على شبكة الإعلام العراقية في الورقة التي قدمها توني بوردِن، مدير معهد إعلام السلم والحرب. فقد قال بوردِن إن 198 مليون دولار من المساعدات الأميركية للعراق ذهبت إلى شبكة الإعلام العراقية وحدها خلال السنوات الثلاث الماضية. وهذا مبلغ هائل بكل المقاييس، ويزداد العجب والحيرة إذا علمنا أن هذه المؤسسة التي أنفق عليها هذا المبلغ الهائل لم تتطور مهنيا ولا تزال دون المستوى المطلوب بمراحل عديدة، إعلاميا وإداريا، إذا ما قورنت بأي مؤسسة إعلامية في العالم، فهي تفتقر إلى المهنية والحيادية والكفاءة الإدارية والإعلامية.
 
لقد جيء بمسودة البيان الختامي إلى المؤتمرين وطُلب منهم تبنيها بعد فترة مناقشة قصيرة دون أن يسمح للمتخصصين منهم أن يناقشوا هذه «المسودة» التي كان يجب أن ترتقي إلى وصفها بالمسودة، إذ لم يؤخذ حتى بالآراء التي سمحت إدارة المؤتمر (وهي إدارة هيئة الاتصالات والإعلام نفسها) بسماعها، ولم تعد صياغة البيان الختامي في ضوء الآراء والمقترحات التي طرحها المشاركون في المؤتمر، الذين يفترض أنهم دعوا لهذا الغرض، كما جرت العادة في كل المؤتمرات، المتخصصة منها والعامة.
 
يبدو أن إدارة المؤتمر كانت تخشى أن تُطرح آراء معارضة أو ناقدة لرؤيتها، تكشف فشلها وسوء إدارتها للإعلام، رغم أنها اختارت المدعوين بعناية فائقة وتجنبت أن تدعو إعلاميين أعلنوا عن آراء ناقدة لأداء هيئة الاتصالات والإعلام أو شبكة الإعلام العراقية. إنها إذن محاولة لتنمية إقطاعيات إعلامية تعمل إلى جانب الإقطاعيات السياسية والطائفية والعشائرية والدينية في العراق، والإبقاء على مناصب وامتيازات حصل عليها البعض ولا يريد التخلي عنها لآخرين، وليست محاولة حقيقية لتنمية الإعلام الديموقراطي المستقل والمحايد كما زعم عنوان المؤتمر.

 

http://international.daralhayat.com/archivearticle/148218