المدى 12/12/2011

منذ عدة أشهر والحملات الموجهة ضد رئيس البرلمان أسامة النجيفي تتوالى الواحدة تلو الأخرى، فمنها من يتهمه بتعيين الأقارب ومنها من يتهمه بإنفاق الأموال العامة على قضايا شخصية، وأخرى تتهمه بهدر المال العام على رحلاته الخارجية، مستشهدين برحلته الأخيرة إلى بريطانيا التي قيل إنها كلّفت ملياري دينار.

 

لكن منظمي هذه الحملات يغفلون أنها تُظهِر من جانب آخر سكوتهم عن ممارسات المسؤولين الآخرين، سواء كانوا في الرئاسات أم بين الوزراء ورؤساء الهيئات والوكلاء وباقي المسؤولين في الدولة الذين لا يترددون في تعيين أقاربهم أو الإنفاق على رحلاتهم إلى الخارج مهما كلف ذلك الدولة من مصاريف.

 

النائب حنان الفتلاوي تصدت بشجاعة ولباقة بالغتين لقضايا الفساد وهي دون شك تستحق الاحترام على مساعيها تلك التي سلطت الأضواء على الفساد المستشري بين كبار المسؤولين السياسيين الذين يفترض أنهم قدوة للآخرين في الالتزام بالقوانين والحرص على المال العام. ولكن عليها أن تتعامل مع الجميع بالمستوى نفسه وبالحماسة ذاتها، إن أرادت الآخرين أن يصدقوا أنها فعلا ضد الفساد الذي يرتكبه المسؤولون جميعا وليس فقط ضد الفساد الذي يرتكبه خصومها السياسيون. للأسف فإن المعركة بينها وبين النجيفي اتخذت طابعا شخصيا فهو يقاضيها على “التشهير” وهي تتوعده بالمزيد. وقد حصل الشيء نفسه مع مفوضية الانتخابات التي استجوبتها الفتلاوي أمام البرلمان وذهب الطرفان إلى القضاء بتهمة التشهير. وقد يحصل الشيء نفسه في الحملة الحالية لكشف الفساد في أمانة بغداد التي يقودها النائب شَروان الوائلي. وتكاد تُهَم الفساد تكون واحدة في هذه الحملات والاستجوابات، فهي إما تعيين أقارب أو إهدار المال العام على الأمور الشخصية أو تقديم عقود مشاريع الدولة لأشخاص مقربين وخلافا للضوابط.

كثيرون يتساءلون إن كان النجيفي وحده الذي وظّف أقاربه معه كمستشارين أو سكرتارية أو حماية. فإن كان آخرون قد فعلوها قبله وبعده فلماذا يُستَهدَف النجيفي وحده ويُسكَت عن الآخرين؟ ولماذا لا يسعى النواب الذين ينتقدون تعيين الأقارب إلى إصدار قانون يجعل تعيين الأقارب فسادا ومخالفة قانونية؟ في الوقت الحاضر ليس هناك قانون من هذا القبيل وبإمكان المسؤولين أن يعينوا من يشاءون من أقاربهم من الدرجة الأولى في دوائرهم ومكاتبهم ووزاراتهم علناً ومن دون خوف من القانون أو وسائل الإعلام لأن الأمر قانوني مقبول اجتماعيا ويحصل منذ أيام مجلس الحكم عندما قام الأعضاء بترشيح أقاربهم للوزارات والوكالات والسفارات، وهذا حقا أمر معيب في كل بلدان العالم ويعتبر مضرا لأنه لا يأتي بالأفضل إلى المواقع المهمة بل يساهم في التغطية على الفساد وإدامته ومأسسته.

أتذكر حادثة أثارت ضجة في وسائل الإعلام البريطانية وقتها وهي أن وزير الخارجية البريطانية في أواخر السبعينات، ديفيد أوين، قد عين صهر رئيس الوزراء آنذاك، جيمس كالاهان، سفيرا في واشنطن. ورغم أن السفير المُعيَّن، بيتر جَيْ (Peter Jay)، هو من الشخصيات المرموقة ومن الخبراء الاقتصاديين المتميزين في البلد وكان مستوفيا كل الشروط ومستحقا التعيين سفيرا، إلا أن كل ذلك لم يشفع له ولا لوزير الخارجية الذي عينه لمجرد أنه متزوج من ابنة رئيس الوزراء. وقد اعتُبِر تعيينه فسادا ومحسوبية، ما دفعه إلى الاستقالة من منصبه، دون ضغوط من أحد ولكن إنقاذا لسمعته واحتراما لنفسه واعتزازا منه بقدراته ومهاراته الكثيرة. لقد استقال بيتر جَيْ من منصب السفير كي يبرهن للجميع أنه ليس مكترِثا لتلك الوظيفة العامة ولا متهافتا عليها، إذ حصل بجدارة على وظيفة مهنية مرموقة وهي إدارة القسم الاقتصادي في التلفزيون البريطاني البي بي سي وبقي في تلك الوظيفة حتى تقاعد قبل عشر سنوات تقريبا وكان من أهم المحللين الاقتصاديين في حينها إذ كان يطل على البريطانيين عبر التلفزيون ليوضح القضايا الاقتصادية المعقدة ويحلل السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والضريبية للحكومة. كما كتب كتابا ممتعا في الاقتصاد عام 2000 تحت عنوان (الطريق إلى الثراء أو ثروة الإنسان- Road to Riches or Wealth of Man) بيعت منه آلاف النسخ. أما الوزير الذي عينه فلم تقُم له قائمة بعد ذلك إذ ظلت تلك الحادثة تلاحقه أنى ذهب حتى غادر السياسة كليا مطلع التسعينات.

لا أحد يتوقع من مسؤولينا ومؤسساتنا الارتقاء إلى مستوى النزاهة في بريطانيا، ولكن يجب أن يكون هناك قانون يحدد ما هو الفساد وهل تعيين الأقارب فساد من الناحية القانونية أم لا. هو بالتأكيد فساد من الناحية المعنوية والسياسية فمَن كانت أولوياتُه هي تعيينَ أقاربه وأصدقائه فإنه لن يهتم كثيرا لما يحصل للآخرين من أبناء بلده إن كان هو وأقاربه وأتباعه بخير.

كان الأحرى بالسياسيين العراقيين أن يبدأوا صفحة جديدة منذ عام 2003 ويتجنبوا الدخول في هذا المأزق لكنهم لم يفعلوا بل أدخلونا في نفق مظلم يصعب الخروج منه.

السؤال الآخر الذي يجب أن يطرح هو هل يتمكن النجيفي فعلا أن يقوم بزيارة إلى أي بلد على رأس وفد برلماني دون أن يصطحب معه نوابا من الكتل السياسية الأخرى؟ أم أنهم سيقيمون الدنيا ويقعدونها عليه إن هو لم يُشرك كل الكتل السياسية، الصغيرة منها والكبيرة، في البرلمان في عضوية الوفد؟ حصل أنني التقيت بالوفد البرلماني الأخير الذي زار لندن وكان وفدا كبيرا إذ ضم حوالي خمسة عشر نائبا ولم يكن لدى غالبيتهم اهتمام بالسياسة الخارجية وأكثرهم لا يجيدون الانجليزية وليس لديهم تصور عن الفائدة المرجوة من الزيارة، وقد بدا ذلك واضحا في أحاديثهم إذ أطنب أحدهم في توضيح “جرائم النظام السابق” للحاضرين متناسيا أن بينهم من قاد حملة فضح وتعرية النظام السابق أمام الرأي العام العالمي والتي تُوِّجَت بإسقاطه من الخارج. ولا أدري إلى متى يبقى البعض يتحدث عن جرائم النظام السابق، بمناسبة أو دونها، ويهمل مشاكل النظام الحالي وكيفية معالجتها.

يخطئ النجيفي طبعا عندما يقحم أقاربه في شؤون عمله أو يعيّنهم بأية صفة كانت خصوصا أنهم غير محتاجين أساسا للوظيفة، ويخطئ عندما يترأس وفدا برلمانيا يكلف الدولة أموالا طائلة، مع التأكيد أن هذه الأنباء غير مؤكدة، وكان عليه قبل غيره، باعتباره رئيسا لأعلى سلطة تشريعية ورقابية في البلد، أن يضرب مثلا أعلى في الحرص يحتذي به الآخرون، ولكن إن أردنا أن نكون منصفين، فإن علينا أن ننظر في ممارسات المسؤولين الآخرين أيضا. هناك الآن مسؤولون كبار جاءوا إلى وظائفهم عن طريق المحسوبية والمنسوبية وبعضهم لا يعرف شيئا عن أساسيات العمل الحكومي أو الوظيفة التي تولاها لأنه لم يعمل في أي وظيفة سابقا، لكنه أُقحِم فيها لمجرد أنه قريب لفلان أو تابع لعلان. والأسوأ من ذلك كله أن هناك أعضاء في البرلمان غير منتخبين بل جاء بهم رؤساء الكتل لأنهم أما أقاربهم أو تابعون لهم. يجب أن تكون محاربة الفساد صادقة ومخلصة وتستهدف الفاسدين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية ومواقعهم في الدولة إن أريد لها أن تحظى بمصداقية وتأييد العراقيين. أما إذا بقيت تستهدف الخصوم السياسيين فقط فإنها ستبقى ضمن حدود المناكفات التي لا تزيد الوضع إلا تعقيداً.

 حميد الكفائي

http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=55032