تنبؤات قد لا تتحقق في الألفية الثالثة

 كانون الأول 1999، كُتب لمجلة المجلة

بعد أقل من شهر من الآن يودع العالم القرن العشرين والألفية الثانية ليدخل الألفية الثالثة، وفي هذه المناسبة التي تتكرر مرة كل ألف عام أود أن انتقل بكم إلى عالم التنبؤات، بعضها ممكن التحقق والبعض الآخر غير ممكن. ستكون هذه التوقعات مبنية على الأحداث التي مر بها العالم خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وكلي أمل أن يتحقق ما هو خير منها فقط.

لم يحدث خلال الخمسين عاما الأخيرة على الأقل أن وصل التنافس بين أوروبا والولايات المتحدة، وهما متحالفتان عسكريا واستراتيجيا، إلى حد فرض العقوبات التجارية على بعضهما البعض مثلما حدث في العام الأخير من القرن العشرين، عندما اختلف العملاقان على ورادات الموز. والمثير للدهشة في هذا الموضوع أن الموز لا يشكل أية أهمية لكليهما، فالاثنان يستوردانه من جمهوريات الموز وبلدان أمريكا اللاتينية، والخلاف هو حول قضايا جزئية تتعلق بتفضيل الاتحاد الأوروبي للموز القادم من مستعمراته السابقة، رغم ارتفاع أسعاره.

إن اعتراض الولايات المتحدة على حليفها الأوروبي بهذا الشكل، وعلى قضية بتفاهة الموز، والتي ما كانت لتصل حتى إلى زوايا الصحف الهامشية قبل عشرة أعوام فقط، إنما ينذر بتنافس اقتصادي شديد سيطال كل صغيرة وكبيرة. لكن المُسِر في ذلك لشعوب العالم المبتلاة بالحروب والصراعات هو أن الخلافات الدولية والإقليمية سوف تُحل سلميا في القرن القادم، مما يعني أن عهد الحروب التقليدية بين الدول الكبرى ربما يكون قد ولى إلى غير رجعة ليحل محله عصر التنافس الاقتصادي الذي يسميه البعض “عصر الحروب الاقتصادية”. فالحرب هي في النهاية إلحاق الضرر بالخصم، وليس من الضروري أن يتحقق هذا الضرر بـ “قطع الأعناق” بل قد يتحقق بشكل أفضل بـ “قطع الأرزاق”.

سوف يسود في القرن القادم مبدأ تقديم المساعدات الاقتصادية للأعداء بهدف اتقاء شرورهم أو التأثير عليهم أو مساعدتهم على ألا يشكلوا خطرا على غيرهم، ويحدث هذا على نطاق ضيق الآن بين أمريكا وروسيا حيث تقدم الأولى مليارات الدولارات للثانية لكي تمنع حصول انهيار فيها قد يدفعها إلى حرب يائسة ضد أمريكا أو إحدى حليفاتها. وبسبب تداخل المصالح وسيطرة الشركات العابرة للحدود على الأوضاع الاقتصادية سيكون من الصعب على الدول اللجوء للحرب لحل مشاكلها وسوف تلجأ على الأرجح إلى الحلول السلمية التي تعتمد في الغالب الأساليب الاقتصادية.

بالطبع لن يختفي من العالم كليا أمثال صدام حسين وسلوبودان ميلوسوفتش، لأن العنف والجريمة ينتقلان في بعض الأحيان عبر الجينات كما يقول العلماء، والجينات لا تتغير إلا بعد آلاف السنين، لكن أمثال هؤلاء سيكونون مقيدين بقوانين ودساتير تمنعهم من تحقيق “طموحاتهم القومية” بسبب تناقص أعداد المعجبين بشخصياتهم “الفذة” والمهللين لقياداتهم “التاريخية”.

إن العولمة، التي يهلل البعض لها، ويهول البعض الآخر منها، سوف تتسع وتتسارع في الألفية الثالثة، بوتيرة أسرع بكثير مما حصل في أواخر الألفية الثانية. فبعد أن استغرق العالم آلاف السنين حتى بلغ العصر الصناعي في الربع الأخير من الألفية الثانية، انطلق متسارعا ليحقق خلال مئة عام معجزات علمية لم يفكر بها حتى مؤلفو الأساطير. وإذا ما قسنا سرعة التطور البشري منذ بدء الخليقة، فإننا سننتهي حتما إلى الاستنتاج بأن العالم سيشهد تطورات كبيرة خلال القرن القادم، تبدأ بانتقال العلم والتقنية إلى كل بقاع الأرض وتنتهي بمجيء عالم واحد لا يشعر المرء باختلاف كبير عند تنقله بين قاراته الخمس.

من سمات هذا العالم الجديد سيادة لغة واحدة هي دون شك اللغة الإنجليزية على حساب اللغات المحلية الأخرى، لكن هذه اللغات سوف تبقى تُمارَس بشكل محدود في المجالات الثقافية والتراثية والدينية. غير أن هناك استثناء، ففي الوقت الذي تنحسر فيه اللغات الأخرى متراجعة أمام الإنجليزية، فإن اللغة العربية سوف تزدهر ازدهارا لم تشهده في تأريخها الطويل حيث سيسعى الكثيرون إلى تعلمها لأسباب دينية وثقافية وتجارية. وقد بدأ هذا الازدهار فعلا وازدادت أعداد المعاهد والكليات التي تدرس العربية في كل أنحاء العالم بدون استثناء، خصوصا العالمين الإسلامي والغربي.

 سوف تتقلص العنصرية والصراعات العرقية بعد أن يكتشف العالم بالتجربة، ما جاءت به الأديان السماوية منذ آلاف السنين، أن كل الناس أخوة متساوون في الحقوق والواجبات، وعندها “سيعتذر” أحفاد المعتدين إلى أحفاد المعتدى عليهم عن “الأخطاء” أو “التجاوزات”، التي ارتكبها الأجداد. وقد حدث شيء من هذا القبيل أخيرا عندما قرر المسيحيون المعاصرون الاعتذار إلى المسلمين عن الجرائم التي ارتكبها الصليبيون بحقهم قبل مئات السنين. وقد يسارع الصرب، ربما في أواسط الألف الثالث الميلادي، إلى الاعتذار إلى المسلمين البوسنيين والكوسوفيين عن المجازر التي ارتكبها أجدادهم الحمقى في القرن العشرين بقيادة سلوبودان ميلوسوفيتش بحق المسلمين في البلدين.

سوف تهيمن الشركات العملاقة، تتصدرها بالتأكيد الشركات الغربية الحالية أو فروعها أو تلك التي تقوم على أنقاضها، على الإنتاج والخدمات في العالم، وسوف يرتفع المستوى المعاشي والثقافي للفقراء في كل أنحاء العالم، فذلك هو الطريق الوحيد الذي تتمكن به الشركات العملاقة العابرة للحدود القومية من تحقيق المزيد من الربح وتقليص التكاليف. فالعامل غير الماهر لا يستطيع أن ينتج أو يستهلك بقدر ما يستطيعه العامل الماهر. إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال انعدام الفوارق في المستويات المعيشية والثقافية بين الشعوب، فالمتقدم منها حاليا سيبقى محلقا في تقدمه على الآخرين، لكن المتخلف منها سوف يتقدم إلى الأمام بخطى سريعة آملا في اللحاق بصفوف المتقدمين.

نعم؛ استبشروا خيرا بقدوم عالم جديد يسوده الأمن والسلام والديمقراطية والرخاء والتعاون بين الشعوب، وقد قيل قديما: تفاءلوا بالخير تجدوه. وسيشمل كل هذا الخير طبعا العالم العربي في نهاية المطاف، وإن تأخر قرنا أو قرنين عن الآخرين فليس هذا مهما فالأمور تقاس بخواتمها، ولِمَ الاستعجال، ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة!

 

حميد الكفائي