الحياة اللندنية 18/10/2000
كثير من البلدان الصناعية تعتبر الهجرة الأجنبية مشكلة تتهددها اقتصاديا واجتماعيا، وتحاول محاربتها بشتى الطرق، إلا أن الحقيقة هي أن الدول الصناعية بدءا من الولايات المتحدة وانتهاء بأسبانيا، هي بحاجة ماسة إلى العمالة المهاجرة، الماهرة منها وغير الماهرة. فمستوى التعليم العالي في البلدان الغربية يترك دائما فراغا في السلم الأدنى للوظائف والأعمال مما يجعلها تحتاج باستمرار إلى العمالة غير الماهرة.

أما التقدم التقني والمعلوماتي السريع في العالم الغربي فقد أوجد هو الآخر فراغا في السلم الأعلى للأعمال التقنية، إذ أن الجامعات والمعاهد الفنية الغربية غير قادرة على اللحاق بحاجة السوق المتنامية لفنيين وتقنيين وخبراء في مجال الكمبيوتر وتقنية المعلومات.

لا تخفي الدول الصناعية حاجتها للعمالة الماهرة، بل إنها ترسل بين فترة وأخرى، خصوصا في فترات الازدهار الاقتصادي، وفودا من الإداريين والأخصائيين لاستقطاب هؤلاء الخبراء في التقنية والكمبيوتر من الهند وأوروبا الشرقية وغيرها من البلدان النامية التي تمتلك مثل هذه العمالة.  وتحاول كل من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان استقطاب المهندسين والخبراء من الهند وإغراءهم بشتى المغريات، من عرض الجنسية الأمريكية إلى الكارت الألماني الأخضر، ونلاحظ هنا تردد الألمان في منح الجنسية حتى في أحلك الظروف، عندما يكونون في حاجة ماسة إلى خدمات هؤلاء الخبراء.

وقد أظهر إحصاء أخير أن أمريكا بحاجة إلى مليون وستمئة ألف من العاملين في مجال تقنية المعلومات، وقد دفع ذلك الكونغرس الأمريكي إلى الإسراع في الموافقة على زيادة عدد التأشيرات الممنوحة للعمال المهرة الأجانب، كما حذر ألان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي الأمريكي، أخيرا من أن النمو غير التضخمي الذي يشهده الاقتصاد الأمريكي لن يستمر إلا بزيادة العمالة المهاجرة زيادة كبيرة.

هناك الكثير من الفوائد التي تجنيها الاقتصادات المتقدمة من العمالة المهاجرة، سواء كانت ماهرة أو غير ماهرة. الخبراء والمهندسون والأطباء يلبّون حاجة ماسة ويملئون فراغا لا يستطيع أهل البلاد أن يملئوه، ويقدمون خدمات تساهم في تقدم الاقتصادات الصناعية وتساعد على توفير الكثير من الوظائف الأخرى التي تساعد بدورها في تنشيط الاقتصاد بشكل عام.

أما العمالة غير الماهرة فهي الأخرى مطلوبة حيث أن هناك الكثير من الوظائف التي يرغب عنها السكان الأصليون والتي  لأسباب كثيرة أقلها أن التطور الاقتصادي في بلدانهم جعل أكثرهم يرتقون إلى الأعلى في السلم الوظيفي، بالإضافة إلى أن ارتفاع مستوى التعليم يجعلهم في وضع متقدم على البلدان النامية التي لا تزال أغلبيتها تعاني من الأمية والتخلف.

من جهة أخرى فإن العمالة الرخيصة تساعد على خفض أسعار السلع والخدمات  وبالتالي خفض معدل التضخم في البلاد مما يساعد على تعزيز النمو الاقتصادي غير التضخمي الذي من شأنه أن يتواصل لفترة طويلة، بدلا من توالي الدورات الاقتصادية التقليدية، وهي دورات الازدهار والكساد، التي أثبتت التجارب الماضية أنها تزعزع استقرار الاقتصاد ولا تساعد على تقدمه.

ونحن هنا لا نريد أن نتحدث عن الفوائد الإنسانية الأخرى للعمالة المهاجرة وهي تخفيف الفقر في دول العالم الثالث وتوفير فرص أفضل للكثير من الخبراء والفنيين العاطلين، الذين سيساهمون بطريقة أو بأخرى في تطوير اقتصادات بلدانهم وتخفيف الفقر فيها.

الحاجة إلى العمالة المهاجرة موجودة وواضحة للجميع، اللهم إلا للحكومات الأوروبية التي تعتبر الهجرة ظاهرة سيئة وتحاربها بشتى الطرق. لو أن الأمر ترك لرجال الأعمال والشركات، لما كانت هناك مشاكل نقص الخبرات أو ارتفاع أجور العمال، بل إن حتى البطالة التي تكثر في العديد من البلدان، خصوصا في أوروبا التي تتميز بتشددها في قضايا الهجرة، سوف تتناقص بوجود العمالة المهاجرة التي تساهم في خلق الكثير من النشاطات الاقتصادية.

لقد أدركت أمريكا، وإن كان إدراكها متأخرا، أن الهجرة ليست مفيدة فحسب، بل إن استمرارها يساعد على تكامل الاقتصاد وينفع السكان الأصليين بدلا من أن يضرهم. ولكن حتى في أمريكا فإن الباب لا يزال موصدا في وجه العمالة غير الماهرة، والتعويل دائما هو على ما يسمى بالهجرة الطبيعية، التي تشمل اللاجئين أو بقاء الطلاب الأجانب بعد انقضاء فترة دراستهم،  وإلى غير ذلك من الهجرة القانونية، أو الهجرة غير القانونية التي تتم بطرق عدة مثل بقاء السياح انقضاء زيارتهم أو القدوم عن طريق البحر بزوارق وسفن أو الاختباء بين الطماطم في الشاحنات التي تنتهي أحيانا بكوارث كما حدث لمهاجرين صينيين الذين ماتوا خنقا في مؤخرة إحدى الشاحنات. وهناك طرق أخرى لا تخلو من غرابة، فعلى سبيل المثال اضطر منتج سينمائي مغربي قبل فترة إلى التوقف عن إنتاج فلم كان يعد لإنتاجه في إسبانيا بعد أن هرب كل الممثلين الثانويين المئة وخمسة عشر، الذين اغتنموا فرصة قدومهم إلى أسبانيا ليسيروا في مناكبها ويأكلوا من رزقه، فور وصولهم إلى البلاد. ولو لم تتوفر الأعمال والوظائف لهؤلاء المغاربة في إسبانيا لما غامر هؤلاء وغيرهم بإلبقاء هناك بصفة غير قانونية. العمالة المهاجرة ستجد طريقا للنفاذ إلى العالم الغربي ما زال هناك حاجة لهم فيها، والغريب أنهم، رغم ظروفهم الصعبة ووجودهم في أقاصي الأمصار، فإنهم يعلمون بوجود وظائف شاغرة في هذا البلد أو ذاك، في وقت تتجاهل فيه حكومات تلك البلدان حاجة أسواقها للعمالة الأجنبية.

سألني أحد المهاجرين المحتملين أخيرا عندما كنت في زيارة إلى بلد عربي: هل لك أن ترشدني إلى طريقة أستطيع بها النفاذ إلى البلدان الغربية؟ فأجبت بالنفي، وعندها سرد لي طرقا عجيبة جربها ولم تنجح حتى الآن، لكنه قال إنه لم يتخلَ عن فكرة الهجرة وسوف يفلح يوما. وهذا الرجل وغيره، لا يريد سوى أن يجد فرصة عمل شريف ليحيى من خلالها حياة كريمة لا أكثر ولا أقل

العولمة تقتضي الانفتاح الكامل، أو على الأقل المنظم، في كل المجالات، بما في ذلك سوق الأيدي العاملة، غير أن غياب فتح الأبواب أمام العمالة المهاجرة، يجعل العولمة لا تعني إلا استغلال الضعفاء وتأخير تقدمهم دون أي نفع ظاهر يكتسبه الأقوياء.