الحياة اللندنية 18/11/1999
منذ انطلاقها قبل أكثر من خمس سنوات ومنظمة التجارة العالمية تبحث عن آلية مقبولة لضم الدول النامية إلى عضويتها، إلا أنها فشلت في ذلك لعدة أسباب. وهذا المأزق الذي وضعت المنظمة نفسها فيه متواصل ذاتيا. لأن المنظمة تضم في عضويتها كل الدول الصناعية فهي تمثل مصالح هذه الدول، ولأنها تمثل مصالح الدول الصناعية فإن سياساتها تتعارض مبدئيا مع مصالح الدول النامية. فكيف إذن تخرج المنظمة من هذه الحلقة المفرغة؟ ليس هناك طريق ثالث أمامها فهي أما أن تفتح عضويتها دون بشروط معقولة لكل دول العالم، وهذا يعني إعادة صياغة ميثاقها بما يتلاءم والوضع الجديد، أو أنها تبقى كما هي: منتدى للدول الصناعية وتوابعها من الدول النامية ونصف الصناعية. وكلا الخيارين لا يروقان للدول الصناعية التي تريد أن “تُبقي على الكيك وتأكله في نفس الوقت” كما يقول المثل الإنجليزي.

لم يكن الوضع التجاري ملائما للدول النامية منذ جولة يوروغواي الأولى في ظل منظمة الغات السابقة، فقد أصبحت منتجات الدول النامية هدفا لتعرفات ورسوم وقيود ثقيلة من الدول الصناعية. فبحجة الحفاظ على البيئة أُثقل كاهل المحروقات بالتعرفات والضرائب، وبحجة سوء معاملة العمال وعمل الأطفال قوطعت العديد من السلع، وبسبب تدعيم الأمن الغذائي أغلقت الأبواب في وجه المنتجات الزراعية القادمة من العالم النامي، بما في ذلك الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية. لا أحد ينكر أن القضايا المطروحة أعلاه، وهي حماية البيئة وسوء معاملة العمال وتدعيم الأمن الغذائي مهمة وجديرة بالاهتمام من الناحية الأخلاقية، إلا أن هناك مجالات أخرى أفضل للتعامل معها بما يضمن حلها على الأمد البعيد.

على سبيل المثال تعادل أسعار المنتجات الزراعية الأوروبية ضعف أسعارها في السوق العالمية والسبب هو المساعدات السخية التي تقدمها أوروبا إلى المزارعين بهدف تأمين الغذاء لأوروبا في الحالات الطارئة كالحروب. غير أن هذه السياسة غير صائبة باعتراف الأوروبيين أنفسهم، وأصبحت عبئا على الاتحاد الأوروبي بدلا من أن تكون عونا له. ليس هذا فحسب بل أصبح الاتحاد الأوروبي مضطرا لفرض تعرفات ورسوم وقيود على المنتجات الزراعية المستوردة من الخارج بهدف حماية أسعار منتجاته الزراعية والحيوانية التي أصبحت تنتج لا لهدف سوى الإنتاج نفسه. وأخذ الأوربيون يرمزون لهذا الإفراط المكلف في الإنتاج بجبل الزبد وبحيرة الخمر بسبب عدم جدوى هذا الإنتاج. إن هذا العمل ليس فقط منافيا للأسس التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية بل هو أيضا لا يخدم المستهلك ودافع الضرائب الأوروبي الذي أصبح مكبلا بهذه الأعباء التي أعدت لزمن الطوارئ. لم يحاول الاتحاد الأوروبي طيلة الخمسين عاما التي تلت الحرب العالمية الثانية من إصلاح سياسته الزراعية المشتركة رغم تغير الظروف، بل ظلت حكوماته أسيرة لمجموعات الضغط واللوبي الزراعي الذي يريد استمرار المساعدات المقدمة للمزارعين “الفقراء”. إن استمرار هذه السياسة ليس في مصلحة الدول النامية التي تتفوق في مجال المنتجات الزراعية، لذلك فإن أية محاولة لإشراك الدول النامية في منظمة التجارة العالمية إشراكا حقيقيا لن يكتب لها النجاح إلا بإصلاح جذري لهذه السياسة. أما الدول غير الأعضاء في المنظمة فلن تنضم إليها إلا إذا رأت مصلحة حقيقية في العضوية.

أما فيما يتعلق بالبيئة وحمايتها فإن ذلك يجب أن يقع كليا على عاتق الدول الصناعية بالدرجة الأولى، فهي التي لوثت البيئة بمصانعها واستهلاكها المفرط للطاقة خلال القرنين الماضيين وجنت من خلال ذلك الأموال الطائلة التي تتمتع بها الآن، لذلك فإن مسئولية تنقية البيئة وحمايتها يجب أن تقع على هذه الدول قبل غيرها. لكن الدول الصناعية، وعبر آليات منظمة التجارة العالمية، تسعى إلى تحميل البلدان النامية المصدرة للمواد الخام هذه المسئولية من خلال فرض ضرائب غير متكافئة على النفط والمحروقات.  وهذه السياسة هي الأخرى غير مجدية في تفعيل دور الدول النامية في منظمة التجارة العالمية أو كسب غير الأعضاء إليها. كيف يُطلب إلى منتجي النفط أن يساهموا في تقليص إيراداتهم وتحجيم النمو الاقتصادي وخفض المستوى المعيشي في بلدانهم؟ لذلك فإن منظمة التجارة العالمية، ومن خلفها الدول الصناعية، إذا أرادت إشراك الدول النامية في المفاوضات التجارية في المنظمة، فإن عليها أن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح هذه الدول التي تعتمد على تصدير النفط الخام والمواد البتروكيمياوية، وهذا يعني التخلي عن هذه السياسة أو إحداث تغيير جذري فيها. حماية البيئة قضية مهمة ومن الحكمة إتباع سياسة جادة لإزالة أو تخفيف التلوث تشارك فيها كل دول العالم وبالأخص الدول الصناعية التي تسببت مصانعها ومكائنها في تلويث البيئة. ولأن البيئة ملك للجميع ومن ثم حمايتها مسئولية الجميع فإن الدول النامية هي الأخرى مطالبة بمتابعة هذا الموضوع مع الدول الصناعية للتوصل إلى صيغة عملية ومقبولة للجميع.

هناك العديد من المسائل الأخرى التي يجب أن تحل من قبل الدول الصناعية إن هي أرادت فعلا إشراك الدول النامية في المفاوضات التجارية العالمية. منها على سبيل المثال التعامل بمرونة مع قضايا الملكية الفكرية والإجراءات المضادة للإغراق. فالولايات المتحدة على سبيل المثال تطارد الدول النامية بشراسة في هذه المجالات على وجه الخصوص، وتشترط التزاما صارما بالقوانين الدولية المتعلقة بهذه المجالات للدول المتقدمة لعضوية منظمة التجارة العالمية قبل النظر في عضويتها. مرة أخرى، ليس هناك من يعترض على ضرورة الالتزام بالقوانين التجارية الدولية لأن ذلك في مصلحة الجميع، لكن بعض الدول النامية لا تمتلك الآليات اللازمة لتنفيذ قانون الملكية الفكرية مثلا، لذلك فهي تحتاج إلى المزيد من الوقت. أما قضايا الإغراق فهي مسائل يصعب إثباتها وعادة ما تستخدم كذريعة للتحايل على قوانين المنافسة. فعندما يرى أحد البلدان الصناعية أن هناك منتجات وسلعا مماثلة لمنتجاته ولكن بسعر منخفض يهدد حصته في السوق، فإنه يتهم البلد الآخر بالإغراق. ليس خافيا أن البلدان النامية تنتج المنتجات الزراعية والمواد الخام بتكاليف أقل وهذا يمكنها من بيعها بثمن أقل من مثيلاتها المنتجة في البلدان الصناعية، أين الإغراق في ذلك؟ نعم تلجأ بعض البلدان إلى تقديم الدعم إلى المنتجات المعدة للتصدير وهذا يحدث في الدول الصناعية أيضا، كتقديم التسهيلات الضريبية لبعض المنتجات في بعض المناطق، وهو لا يشكل خرقا لقوانين الإغراق. الإغراق يحدث فقط إذا حاول بلد ما أن يخفض منتجاته بقصد الإضرار بمنتجات البلد الآخر المنافسة لمنتجاته بهدف تحقيق مكاسب مستقبلية كزيادة حصته من السوق مثلا.

إن التجارة الحرة تعرضت للعديد من التراجعات والعقبات التي وضعت في طريقها من قبل الدول الصناعية نفسها، فقد رأينا حرب الموز التي لا تزال محتدمة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهناك أيضا الخلافات الدائرة حول المنتجات الغذائية المحفَّزة جينيا، والخلافات حول تجارة الفولاذ وغيرها، وكل هذه الخلافات بين البلدان الصناعية نفسها. بالطبع لا أحد يطمح إلى عالم يخلو من الخلافات التجارية، لكن التجاوز على قوانين التجارة الحرة التي تبلورت عبر سنين من المفاوضات لا يمكن اعتباره إلا تراجعا للتجارة الحرة، وهذا ليس في صالح الجميع. إذا أريد لمنظمة التجارة العالمية، وهي تستعد لعقد مؤتمرها الوزاري في ديسمبر القادم في سياتل في الولايات المتحدة الأمريكية، أن تكون فعالة على المستوى العالمي لابد أن تشترك كل دول العالم في صنع القرار في المنظمة، بما في ذلك قوانين العضوية في المنظمة. وهذا يتطلب قيام الدول الصناعية نفسها بتنفيذ ما وقعت عليه سابقا وهو رفع القيود والتعرفات في وجه التجارة العالمية، ليس فقط بين الدول الصناعية وداخل الكتلة الإقليمية فحسب، بل أمام منتجات الدول النامية من المنتجات الزراعية والمواد الخام ونصف المصنعة. وبهدف تنفيذ ذلك لابد من جولة جديدة للمفاوضات التجارية العالمية تختلف عن الجولات السابقة، وهذه فرصة جديدة للدول الصناعية لتعزيز مصداقيتها المهلهلة بين دول العالم النامي. وهذا لا يلغي أو يقلل من مسئولية الدول النامية بتنشيط وتفعيل آليات  القوانين الدولية واحترام نصوصها وزيادة الشفافية في التعاملات المالية والتجارية والسعي الحثيث لاقتناء التقنية الحديثة والتدريب على استخدامها بهدف تحسين الإنتاج وزيادة حصتها من السوق العالمية.