الحياة اللندنية 1999
فقد الذهب دوره الرئيسي في النظام المالي والنقدي العالمي في عام 1971 بعد أن ألغي مقياس الذهب الذي أسسه العالم اسحق نيوتن في بريطانيا في العام 1717، والذي وضع اللبنات الأساسية للنظام المالي العالمي. وبموجب مقياس الذهب يتوجب على البلدان المختلفة الاحتفاظ بكميات محددة من الذهب في بنوكها المركزية لدعم أسعار عملاتها. وقد استعيض عن مقياس الذهب بما يسمى بـ “حقوق السحب الخاصة”، التي يحددها صندوق النقد الدولي لكل بلد حسب مقاييس متفق عليها عالميا كحجم الناتج المحلي وما يمتلكه ذلك البلد من العملات الأجنبية بالإضافة إلى الذهب، وتتراوح قيمة حق السحب الخاص الواحد بـ 1.5 دولار. ومنذ ذلك الحين بدأت أسعار الذهب بالانخفاض المطرد، باستثناء فترة وجيزة عام 1980 عندما ارتفع سعره إلى 865 دولار للأونسة الواحدة حسب الوزن الترويسي،  لكنه انخفض بعد ذلك بمقدار ثلثي قيمته السابقة ليصل إلى 288 دولار للأونسة في منتصف الأسبوع الماضي.  غير أن سعر الذهب انخفض فجأة يوم الجمعة الماضي بحوالي 9 دولارات، ليصل إلى أقل من 280 دولار للأونسة، بعد إعلان الحكومة البريطانية أنها تعتزم بيع 425 طن، بقيمة 6.5 بليون دولار، من مخزونها من الذهب البالغ 715 طن، خلال السنوات القليلة القادمة. وسيبدأ البيع في السادس من يوليو القادم بعرض 125 طن من الذهب البريطاني في المزاد العلني الذي سيُنظم كل شهرين بعد ذلك التأريخ حتى يتقلص مخزون بريطانيا إلى 300 طن. كذلك شهدت أسعار أسهم شركات تعدين الذهب العالمية انخفاضات حادة، بلغت 14% في تورنتو في كندا، كنتيجة مباشرة للإعلان البريطاني.

وتعتزم الخزانة البريطانية استبدال احتياطيها من الذهب بأصول مالية، بالدرجة الأولى سندات حكومية، بالعملات الأجنبية، وعلى وجه التحديد اليورو والدولار والين الياباني، وستكون حصة كل عملة حسب التقسيم الحالي لاحتياطي بريطانيا من العملات الأجنبية، وهو 40% يورو، و 40% دولار، و20% ين. وبهذا الإجراء سوف تنخفض حصة الذهب من مخزون بريطانيا النقدي من 43% حاليا إلى 18% بانتهاء عملية البيع الحالية، وتعتبر هذه النسبة حسب مصادر البنك المركزي البريطاني أقل عرضة للمخاطر فيما لو حصل المزيد من الانخفاض في أسعار الذهب في المستقبل، ولو أن بعض المراقبين يرون أن هذه النسبة لا تزال عالية في وقت تتدنى فيه أسعار الذهب وأهميته. ويرى آخرون أن بريطانيا قد تلجأ في المستقبل إلى بيع أكثر مما أعلنت عنه. ومن المرجح أن تستمر أسعار الذهب في التدهور التدريجي في السنوات القادمة، خصوصا وأن سويسرا تعتزم بيع 1300 طن من الذهب، وهو ثلاثة أضعاف ما تعتزم بريطانيا بيعه، بعد أن أنهت رسميا ارتباط الفرانك السويسري بالذهب. ومن المرجح أيضا أن يعرض صندوق النقد الدولي حوالي 10% من مخزونه من الذهب، ما يعادل 3 بلايين دولار، للبيع لتمويل برنامجه المتعلق بتخفيف ديون البلدان الفقيرة. وقد بيع خلال السنوات العشر الماضية حوالي 6700 طن من الذهب الرسمي (الذي تحتفظ به الحكومات في بنوكها المركزية لدعم أسعار عملاتها). كذلك قامت بلدان أخرى مثل الأرجنتين وبلجيكا واستراليا، التي تعتبر إلى جانب جنوب أفريقيا من أكبر منتجي الذهب في العالم، ببيع كميات كبيرة من إحتياطياتها من الذهب.

لقد ساهمت هذه المبيعات، إضافة إلى التخلي عن الذهب كمقياس وحيد للثروة في العالم، إلى تدني أسعاره خلال العشرين عاما الماضية. إن عدم ارتفاع الطلب على الذهب خلال الأزمات العالمية خلال العقدين الماضيين، من حربي الخليج الأولى والثانية، إلى انهيار أسعار الأسهم العالمية في عام 1987، والأزمة المالية الآسيوية قبل عامين، وأزمتي روسيا في العام الماضي والبرازيل أخيرا، والحرب الدائرة في البلقان حاليا، قد قاد الكثيرين في الدوائر الرسمية والتجارية إلى الاعتقاد بأن الذهب قد أصبح سلعة كباقي السلع الأخرى وليس عملة عالمية تستخدم لخزن الثروة كما كان خلال ثلاثة آلاف سنة. فقد كان الناس يلجئون إلى الذهب في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره وتعزيز موقعه.  لقد قال العالم الاقتصادي البريطاني المعروف وصاحب “النظرية العامة” في الاقتصاد جون مينارد كينز “إن الذهب هو أحد الآثار المقدسة المتبقية من العهود الهمجية”، أي أن استعماله كمقياس ومخزون للثروة يعود لعصور خلت وأنه سوف ينتهي بمرور الزمن. وربما يكون عصر هذا التنبؤ قد حل الآن.

إن بيع بريطانيا لأكثر من نصف احتياطيها من الذهب واستبداله بالعملات الأجنبية الرئيسية يكتسب أهمية خاصة بالنسبة لدور الذهب في الاقتصاد العالمي لعدد من الأسباب. فبالإضافة إلى أنه يزيد من كمية المعروض من الذهب مما يخفض الأسعار، فإن بريطانيا هي الأولى بين دول العالم التي بدأت باستخدام مقياس الذهب قبل حوالي ثلاثة قرون، وهي، أيضا، الأولى التي بدأت تتخلى عن الذهب تدريجيا منذ الكساد الكبير في الثلاثينات من هذا القرن، لذلك فإن تقليصها لمخزونها من الذهب بهذا الحجم المقترح له دلالات رمزية تشير إلى تقلص أهمية هذا المعدن في النظام النقدي العالمي مما يؤثر سلبا على أسعاره ودوره في الأسواق العالمية. كذلك فإن توقيت الإجراء البريطاني له أهمية خاصة. فحكومة السيد توني بلير لم تخفِ رغبتها في الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، منذ مجيئها للسلطة قبل عامين (أيار/مايو 1997)، وهي تغتنم كل فرصة لتعزيز موقفها المؤيد لليورو. وقد أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستجري استفتاء عاما حول اليورو بعد الانتخابات القادمة، لكن تدهور سعر اليورو مؤخرا قد أدى إلى إضعاف احتمالات موافقة الشعب البريطاني على الانضمام إلى اليورو والتخلي عن الجنيه الإسترليني. لذلك فإن بيع الذهب والتعويض عن قسم كبير منه (40%) لشراء اليورو سوف يعزز من قيمتها وبالتالي من فرص انضمام بريطانيا إليها بعد العام 2002. ومن المتوقع أن تقوم الدول الأوروبية الأخرى خارج اليورو مثل اليونان والسويد ببيع كميات من احتياطياتها من الذهب ودعم اليورو. ومع إعلان كل من سويسرا وصندوق النقد الدولي عن نيتهما لبيع كميات كبيرة من الذهب، فإن أسعار الذهب تسير نحو المزيد من الانخفاض، وقد يخفق وزير المالية البريطاني غوردون براون في تحقيق هدفه بالحصول على أفضل الأسعار قبل دخول الذهب السويسري إلى الأسواق. لكن البيع التدريجي للذهب البريطاني سوف يخفف من احتمال حدوث انهيار مفاجئ في الأسعار. مع ذلك فإن أنباء هذه المبيعات الرسمية للذهب سوف تدفع شركات تعدين الذهب إلى الإسراع في بيع إنتاجها من الذهب قبل حصول المزيد من التدني في الأسعار، وكل ذلك يحمل بشائر سارة للنساء العربيات الشغوفات باقتناء الحلي الذهبية.