المدى، الأربعاء: 26-10-2011

لم يكن إعلان الرئيس أوباما قبل أيام حول إتمام الانسحاب الأمريكي من العراق بنهاية العام الحالي جديدا، فقد أعرب الرجل عنه في حملته الانتخابية، كما إن اتفاقية انسحاب القوات المبرمة عام 2008 واضحة، وقد نصت على أن يغادر آخر جندي أمريكي بحلول نهاية 2011. إلا أنه مع ذلك فقد عومل هذا الإعلان، من قبل الطرفين، الأمريكي والعراقي، وكأنه موقف جديد ومفاجئ وهنا تكمن الغرابة في الحقيقة. فهذا الاهتمام الأمريكي-العراقي بالإعلان يعني أن كلا الطرفين كانا يتوقعان استمرارا من نوع ما للوجود العسكري الأمريكي في العراق وأن التوقيتات المدونة في الاتفاقية لم تكن نهائية أو جدية بل قابلة للتحرك إلى الأمام وإلى ما لا نهاية.

الموقف العراقي الرسمي للقوى السياسية جميعها من بقاء القوات كان متذبذبا، فرغم أن كل الكتل، باستثناء واحدة هي كتلة الأحرار، كانت ترغب في بقاء القوات الأمريكية لفترة أخرى، لأنها تدرك أن هناك مصلحة ما، وطنية أو حزبية، في هذا البقاء، إلا أنها لم تكن مستعدة لأن تتبنى هذا الموقف رسميا لأسباب سياسية واضحة، باستثناء التحالف الكردستاني الذي كان منسجما وواضحا بتأييده للتمديد.الآن وقد “اتفقت” الكتل السياسية على عدم التمديد وعدم منح الحصانة للمدربين، وكل منها له أسبابه السياسية طبعا، وهذا الاتفاق هو أمر جيد دون شك، ولكن، هل كان فعلا نتيجة لاقتناع هذه الكتل بأنه في مصلحة العراق؟ أم أنه موقف اضطراري أملته الظروف السياسية الآنية عليها وليس المصلحة الوطنية العليا ومستقبل العراق؟

الجميع يدرك أن العراق لا يزال ضعيفا أمام التهديدات الخارجية، بل وحتى الداخلية، فهناك ميليشيات أكثر تنظيما وتماسكا من أجهزة الجيش والشرطة التي لم تتمكن في السابق من إحكام سيطرتها على مناطق تسيطر عليها تلك الميليشيات. والجميع يعلم أيضا أن الطريقة التي شُكلت بها القوات المسلحة والجيش وقوات الحماية لم تكن علمية ولا مهنية بل حصلت حسب اعتبارات سياسية وأخرى بعيدة جدا عن المهنية وهذا هو سبب ضعفها رغم كثرة عددها، وستبقى ضعيفة حتى لو تضاعف عددها في المستقبل، ما لم تُفعِّل الأساليب المهنية في التدريب والقيادة وطرق العمل. نعم يفترض أن العراق ليس بحاجة إلى قوات أجنبية بعد أن تجاوز عدد منتسبي الأمن والجيش والشرطة وحماية المنشآت وحمايات المسؤولين، صغارا وكبارا، المليون شخص، لكن المشكلة تكمن في عدم تماسك هذه الأجهزة وعملها ضد بعضها البعض أحيانا وعدم وجود أجهزة مخابرات واستخبارات وطنية متماسكة موحدة يمكن أن تجمع المعلومات الحقيقية المجردة من الأهواء والمصالح السياسية والشخصية وتحللها بشكل علمي وتستفيد منها على المستوى الوطني وفي كل المناطق والمؤسسات في الوقت نفسه.

التهديدات الخارجية للعراق جدية وقائمة وعلنية ونحن نرى الانتهاكات التركية والإيرانية المستمرة للحدود العراقية دون اعتبار لحرمة هذه الحدود أو للسيادة العراقية، ومن المحتمل أن تكون آبار العراق النفطية الحدودية في خطر أيضا لأنه ليس هناك ما يمنع أيا من الدول المجاورة من التمدد والاستيلاء على مناطق غنية بالنفط كما حصل قبل عامين لبئر الفكة الحدودي. لذلك يجب تعزيز وتشديد الحماية على كل المناطق الحدودية التي يمكن أن تستقطب أطماع الآخرين.

النظام الديمقراطي الحالي هو الآخر ضعيف بسبب التناحرات السياسية ومحاولة كل طرف الاستئثار بما يمتلك من السلطة وإقصاء الآخر أو تهميشه أو إضعافه وهي حالة منافية تماما للأعراف الديمقراطية وقيم التمدن وسوف تقضي على ما تبقى من الديمقراطية واحتمالات التقدم في العراق إن استمرت. الاغتيالات وأعمال القتل العشوائي هي الأخرى تخيم على المشهد السياسي وتجعل الجميع يخشى مما يخبئه المستقبل لهم، خصوصا مع عدم قدرة الأجهزة الأمنية على الكشف عن الجناة الحقيقيين ومن يقف وراءهم.ما العمل إذن في ضوء هذه التحديات وهي كبيرة جدا وتحدق بالعراق كبلد، وبالقوى السياسية، مجتمعة ومنفردة؟

هناك حاجة ماسة وملحة لمراجعة المواقف. فكل من يفكر من القوى السياسية الحالية أن بإمكانه أن يمسك وحده بالسلطة في العراق ويقصي الآخرين عنها هو مخطئ تماما وموقفه هذا مضر بمستقبله السياسي، لأن الأوضاع والتحالفات السياسية متغيرة ومتقلبة في العالم ككل والمنطقة العربية تحديدا، والعراق ليس استثناء، ومن الممكن أن تكون هناك تحولات جذرية سريعة لصالح طرف ضد آخر إن بقيت الأطراف السياسية متنازعة متحاربة مفضلة المكاسب الحزبية والشخصية على بناء دولة عصرية لجميع العراقيين. كذلك فإن الاعتماد على الدعم الأمريكي ليس حلا دائميا للمشكلة السياسية العراقية وإن كان ملحا ومطلوبا في الوقت الحاضر لأسباب كثيرة. الأمريكيون لن يتمكنوا من حل مشاكل العراقيين ولا أعتقد أن لديهم القدرة على ذلك وقد جربهم العراقيون وعرفوا محدودية قدراتهم في إيجاد الحلول، بل وإمكانية ارتكابهم الأخطاء في الوقت نفسه. لكن المطلوب أن نبقيهم حلفاء وأصدقاء لأن هذا في مصلحتنا كبلد نام يتطلع إلى الاستقرار والتقدم ويحتاج إلى دعم الدول الكبرى كالولايات المتحدة التي تمتلك نفوذا واسعا في الكثير من مناطق العالم، خصوصا منطقتنا العربية.

بعض القوى السياسية تحاول أن تزرع العداء لأمريكا وهذا بالتأكيد ليس في مصلحة العراق ولا في مصلحة أي طرف من الأطراف العراقية، خصوصا الطرف المروج لهذا العداء، وقد رأينا كيف تورط الزعماء الإيرانيون عندما روجوا لمثل هذا العداء في إيران خلال العقود الثلاثة المنصرمة وأصبح الآن من الصعب عليهم أن يقيموا علاقات طبيعية مع أمريكا التي سموها بـ “الشيطان الأكبر”، أو أي بلد غربي آخر، رغم إدراكهم أن مثل هذه العلاقات ضرورية لبلدهم.

يجب على القوى السياسية العراقية أن تتعلم الدروس، فلا أحد يستطيع الانفراد بالسلطة في المستقبل، ومحاولات إقصاء وتهميش الخصوم والمنافسين ستعود على ممارسيها بالضرر الفادح في نهاية المطاف، فقد مارسها النظام السابق وأصبح مكروها ومعزولا وطنيا وإقليميا ودوليا، فلماذا تكرار أخطاء الفاشلين؟ نعم، السلطة توهم من فيها أنه قوي وباق بينما الآخرون ضعفاء أمامه وتمكن إزالتهم من الطريق، لكن هذه تبقى أوهاما على الحصيف والمخطِط الاستراتيجي ألا يصدقها وينجر وراءها. الشعب العراقي الذي عانى طويلا من التسلط وعدم الاستقرار يستحق تعاملا جديدا وصادقا من القوى السياسية الحالية. يجب أن تكون هناك ثوابت يتفق عليها الجميع بينما تبقى مساحات الاختلاف ساحات للتنافس ويكون القرار في نهاية المطاف للشعب العراقي يعبّر عنه في صناديق الاقتراع. ومن المهم أيضا أن تحترم الأطراف السياسية ما تتوصل إليه من اتفاقات بينها بعد الانتخابات، وإلا فإنها في الحقيقة تدعو العراقيين إلى عدم الثقة بكل ما تفعله في المستقبل.
حميد الكفائي