ما أكثر الحُجّاج في دولة «الحجّي»

الحياة اللندنية, 16 أكتوبر 2011
قيل قديماً إن الناس على دين ملوكها وخير مصداق على هذه المقولة تجده الآن في العراق. فكثيرون هذه الأيام، صغاراً وكباراً، ملتزمين دينياً وغير ملتزمين، يقدمون أنفسهم على أنهم «الحجي» فلان أو «الحجية» فلانة! وتنتفي الغرابة في هذا التوجه الجديد إذا ما عرفنا أن رئيس الوزراء، نوري المالكي، يُشار إليه في الأوساط الرسمية بـ «الحجي»! وأول من أشاع التسمية أفراد طاقمه الشخصي الذين يطلقون عليه وعلى أنفسهم هذه الصفة الدينية. قد يكون الأمر طبيعياً بالنسبة إليه وإليهم، إذ اعتادوه منذ زمن بعيد ومن حقهم التخاطب به على المستوى الشخصي، لكن المشكلة أن كثيرين من موظفي الدولة الآن بدأوا يستخدمون الألقاب الدينية لتجنب الالتزام بالقانون واللوائح، وللإيحاء بأنهم أقوياء باعتبارهم منسجمين مع رئيس الوزراء، مقتدين بسيرته.
 

في مطلع الثمانينات، وبعد انتشار المد الإسلامي الآتي من إيران في العراق، والذي ألهمه «السيد» الخميني، أعلن عدوه اللدود، الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أنه هو الآخر «سيد» من سلالة النبي محمد وأنه «أوْلى» من الخميني وباقي القادة الإيرانيين بهذا النسب لأنه عربي بينما هم إيرانيون فرس! وأمر صدام بعض النسّابة الشيعة بإصدار «مُشجّر» عائلي يربطه بالدوحة النبوية! ولم ينتهِ الأمر عند ذلك بل اشترط على جميع العراقيين أن يأتوه بأنسابهم، لا بأحسابهم كما يقول الحديث الشريف، ما اضطر كثيرين للبحث عن أنساب حقيقية أو مختلقة والإتيان بمشجّر موقّع من كبار «النسّابة» في البلاد كي ترضى عنهم السلطة. ولم يكن الإتيان بمشجّر عائلي صعباً في تلك الفترة المريرة التي اشتد فيها الحصار الاقتصادي على العراق، وأصبح من يمتلك المال قادراً على شراء أي شيء. نتيجة لذلك ادعى الآلاف من العراقيين الانتساب إلى النبي، حتى أن أحد المحامين المعروفين الذي اشتهر بلقب قبلي غير هاشمي، غيّر لقبه إلى «الحسني» كي يدلل على أنه ينتسب إلى الإمام الحسن حفيد النبي. وفي مفارقة مضحكة، وضعت قبيلته الأصلية لافتة عند وفاته تقول: «تنعى قبيلة كذا فقيدها المحامي فلاناً الحسني»! بينما أقام أحد رجال الدين قبل سنوات وليمة أعلن فيها أنه اكتشف أن نسبه يعود إلى النبي واستبدل العمامة البيضاء بسوداء مضيفاً لقب «الموسوي» إلى لقبه السابق!

في زمن النظام السابق كان بعض الانتهازيين يدّعي الانتماء إلى مدينة تكريت، مسقط رأس صدام، أو يتحدث بلهجة أهلها أو المناطق القريبة منها كي يتقرب إلى المسؤولين ويوهم البسطاء بأنه قريب من مركز السلطة بهدف الحصول على الامتيازات، وكثيرون الآن يفعلون الشيء ذاته ولكن بوسائل أخرى. فما أكثر «السادة» هذه الأيام حتى ممن يحملون ألقاباً تشير إلى نسب غير عربي، وكثير من هؤلاء يشير إلى ابنه الصغير مثلاً بـ «سيد فلان» وإلى والده أو أخيه الأكبر بـ «السيد» وزوجته أو أمه بـ «العلوية»! وما أكثر «الحُجاج» الذين لا قِبل لهم بالتدين لكن «الهداية» نزلت عليهم فجأة خلال السنوات السبع الماضية. ولا بأس، فالإسلام «يجِبُّ ما قبله» كما يقول الحديث الشريف.

دخلتُ إحدى الدوائر الرسمية قبل أيام فاستقبلني أحد ضباط الحماية بحرارة واحترام شديدين، وهذا يسجل له طبعاً، وقد عرّف نفسه بأنه «الحجي» فلان بدلاً من الملازم أو النقيب فلان. وبعد دخولي الدائرة ذهبت إلى أحد الأقسام كي استفسر عن أمر شخصي فاستقبلتني إحدى الموظفات وقد عرّفتُها باسمي كي تتابع الأمر الذي كنت بصدده، فردت بلهجة متعالية «أعرف اسمك»! ثم نصحتني بأن اتصل بشخص آخر لم يكن موجوداً حينها، وتلت علي رقم هاتفه بسرعة لم تمكنّي من حفظه فطلبت منها أن تدونه لي على ورقة كي احتفظ به، فردت بانزعاج «ولِمَ لا تدونه أنت»؟ وقبل مغادرتي الدائرة سألتها عن اسمها كي أوثق ذلك لديّ، فقالت إنها «الحجية» فلانة!

ظاهرة تقليد الزعماء والمتنفذين ليست حديثة العهد بل تمتد في أعماق التأريخ وليست حكراً على ثقافة معينة أو بلد معين بل عابرة للثقافات والبلدان، تزداد وتتقلص بحسب الظروف والثقافة السائدة في البلد ومدى الاستفادة من هذا التقليد، معنوياً أو مادياً. تقلصت هذه الظاهرة، إن لم نقل تلاشت، في بلدان العالم المتمدن الذي يسوده القانون والحقوق والحريات ويعتبر فيه المواطن صاحب السلطة الأساسية لأنه هو الذي يعيّن الحاكم والمسؤول ويفصلهما وليس العكس. وتتجلى ظاهرة التقليد في ممارسات منها مثلاً تسمية الأبناء بأسماء الملوك والرؤساء أو أبنائهم، لهذا كانت أسماء فيصل وغازي ونوري وصباح سائدة أيام الحكم الملكي. وفي العهد الجمهوري شاع اسم كريم كثيراً تأسياً بالزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء وقائد انقلاب 14 تموز (يوليو) الذي تمتع بشعبية واسعة. وفي زمن صدام شاعت أسماء وممارسات أخرى لا حاجة لذكرها لأنها معروفة، ليس في العراق فحسب بل في بلدان عربية أخرى بسبب مساعي النظام للتوسع عربياً، وقد قيل إن اسم صدام أطلق على أربعمئة مولود في يوم واحد في أحد البلدان العربية «اعتزازاً» بسياساته، من احتلاله بلداً عربياً إلى إطلاقه 39 صاروخاً على إسرائيل لم تُصِب أياً من أهدافها، هذا إذا افترضنا أن لها أهدافاً غير الدعاية للنظام.

وعلى رغم التغيير الكبير في كل مناحي الحياة في العراق بعد 2003، وتوافر قدر كبير من الحريات والحقوق والوظائف وطرق الكسب المشروع، ووجود تعددية سياسية وحرية دينية، فالظواهر الاجتماعية المتأصلة، كالتأثر بممارسات الحكام والمتنفذين وسلوكهم، لم تتغير كثيراً. فصور المسؤولين ورؤساء الأحزاب وقادة التيارات السياسية والدينية لا تزال تملأ الشوارع والدوائر الحكومية والساحات العامة، تماماً كما كان يحصل سابقاً. وقلما تجد مسؤولاً صغيراً أو كبيراً إلا ويضع في مكتبه ومنزله صورة تجمعه مع رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو أحد الوزراء أو الزعماء السياسيين. والغريب أن بعضهم ينتقد بشدة المسؤول الذي يحتفي بصورته!

الأكيد أن تغيير الممارسات الاجتماعية التي اعتاد الناس عليها منذ زمن بعيد، صعب، ولكن بإمكان الزعماء والمسؤولين أن يطبقوا القانون على الجميع وأن يعاملوا الناس على قدم المساواة من دون تفضيل لتابعيهم، كي يؤسسوا لمجتمع جديد يقوم على احترام الإنسان وحقوقه ورأيه المختلف وليس التبعية الظاهرية للأشخاص مهما علت مناصبهم ومكاناتهم.

حميد الكفائي

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/318904