المدى: الأحد 16-10-2011
أكثر العراقيين يسعون للتعيين كموظفين في الدولة حتى وإن كان ذلك في أدنى الوظائف وأقلها راتباً رغم أن وظائفهم وأعمالهم في القطاع الخاص قد تكون مريحة وناجحة ومربحة، والسبب هو أنهم يبتغون راتبا تقاعديا يضمنون عبره موردا ثابتا لهم، وإن كان قليلا، عند الكبر، ولا يوفّر هذا الراتب التقاعدي في الوقت الحاضر سوى الدولة.

فالحافز نحو التعيين في مؤسسات الدولة إذن هو الحصول على “ضمان للمستقبل” أي الراتب التقاعدي الذي يحصل عليه موظفو الدولة فقط في العراق. لو كان مثل هذا الضمان متوفرا في القطاع الخاص لما سعى كثيرون للتوظف في القطاع العام مطلقا لأن مستوى الرواتب واحتمالات الربح في القطاع الخاص تفوق ما يوفره القطاع العام بعدة أضعاف، هذا إذا أهملنا الميزات الأخرى للعمل في القطاع الخاص كالحرية وعدم التقيد بالضوابط التي يفرضها القطاع العام على العاملين فيه.

قبل أيام نقلتني مع آخرين سيارة تابعة للدولة وقد توقف السائق مرات عدة لسؤال المارة عن المنطقة التي كنا نقصدها رغم أنها مَعلَم معروف لكل سكنة بغداد وقد اعتذر لنا لأنه جديد على المهنة التي تختلف عن مهنته الأصلية وهي (خيّاط). اضطر هذا الرجل لترك مهنته هذه والعمل في مؤسسات الدولة من أجل الحصول على الضمانات التي توفرها الوظيفة لشاغلها. استغربت كثيرا أن يترك أي شخص مهنة مهمة كالخياطة التي تتطلب مهارة وخبرة غير متوفرة لدى الكثيرين من أجل أن يعمل سائقا براتب متواضع في مؤسسة حكومية. وقد دفعَنا هذا التساؤل لأن نتداول في الأمر وحسبنا كم كان سيحصل في المعدل من الراتب التقاعدي للفترة المتبقية من حياته بعد إحالته إلى التقاعد وإذا بالمبلغ لا يتجاوز كثيرا إيراد عام واحد من العمل في القطاع الخاص. لو يعلم الساعون وراء الوظيفة في الدولة أنهم بسعيهم هذا إنما يفوِّتون على أنفسهم فرصا كثيرة وثمينة في القطاع الخاص من خلال انخراطهم في وظائف  الدولة  التي لا تغني ولا تسمن من جوع في أكثر الأحيان. أغلب الموظفين الصغار في الدولة يضطرون للعمل في مهن أخرى بعد الدوام لأن رواتبهم لا تكفي لسد متطلبات الحياة المتزايدة يوما بعد يوم.

في الدول الغربية، والأوروبية تحديدا، لا يقلق الإنسان كثيرا من هذه الناحية، فالراتب التقاعدي متوفر لكل مواطن، والقلق الوحيد هو حول حجم هذا الراتب الذي يعتمد على حجم المساهمات التي يقدمها الموظف لصندوق الضمان الاجتماعي التي تعتمد بدورها على حجم الراتب الذي يتقاضاه. فبإمكان موظفي القطاع الخاص أن يساهموا في صندوق الضمان الاجتماعي العام حسب قدرتهم من أجل تعزيز رواتبهم التقاعدية. فالعمل في القطاع الخاص لا يعني أبدا حرمان المرء من حقه في الحصول على المعاش عند فقدانه القدرة على العمل مع تقدمه في السن. وعادة ما تستثمر الشركات الخاصة في صناديق ائتمان وشركات تأمين كي توفر رواتب تقاعدية مجزية لمنتسبيها، بينما تقدم الدولة هي الأخرى راتبا تقاعديا لكل مواطن حسب مساهماته المالية في صندوق الضمان الاجتماعي خلال سني عمله. والأهم من هذا كله هو أن المرء لا يشعر بأن الدنيا ستضيق به عند شيخوخته لمجرد أنه لا يعمل في القطاع العام لأن الدولة ستتكفل بكل إنسان عند مرضه أو عجزه عن العمل وهذه هي أولى مسؤولياتها إلى جانب توفير الأمن وحفظ النظام. لذلك فإن العاملين في القطاعين العام والخاص يتقاعدون في السن نفسه، وهو الخامسة والستون في معظم الدول الأوروبية. الحلاق الذي كنت أتردد عليه في لندن تقاعد في ذكرى ميلاده الخامسة والستين، تماما كما يتقاعد موظفو الدولة والشركات العامة، وسلّم صالون الحلاقة إلى ابنه الذي واصل مهنة الأب.

ليس من العدل في شيء أن يقلق المرء في سني عمره الأخيرة، وبعد مسيرة حياة حافلة بالعمل والعناء، خشية أن تضيق به الدنيا ولا يحصل على متطلبات العيش الضرورية. وليس من العدل أيضا أن يضطر للاعتماد على ما يقدمه له الآخرون، حتى وإن كانوا أبناء بارين مخلصين أو أصدقاء وأقارب مخلصين. من حق أي إنسان أن يشعر بأنه دائما يعيش من عرق جبينه ومن المال الذي كسبه بحق. كثيرون من مسنينا الذي لا مورد لهم سوى ما يقدمه لهم أبناؤهم وأقاربهم يشعرون بأنهم عالة على الآخرين و كثيراً ما نسمع منهم أنهم يودون مغادرة الدنيا في أقرب فرصة كي يريحوا ويستريحوا. إنه لأمر محزن حقا أن ندع آباءنا وأمهاتنا ومربينا أن يشعروا أو تراودهم أحاسيس من هذا النوع في آخر أيامهم التي يفترض أن تمتلئ بالسعادة والتفرغ لعمل الخير.

السعي نحو كرامة في الشيخوخة أمرٌ  مشروع، بل حق لكل إنسان لكن ذلك يجب ألا يتحول إلى هاجس يلاحق المرء طول حياته ويضطره لأن يسعى نحو وظيفة في مؤسسات الدولة قد لا يكون مؤهلا لها مهنيا أو مستعدا لها نفسيا، وما كان لينخرط بها لولا حاجته لضمان حياة كريمة عند الكبر. المطلوب هو أن يشرّع البرلمان على وجه السرعة قانونا يعطي كل مواطن، سواء كان موظفا في مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص أو عاطلا عن العمل لأي سبب كان، حق الحصول على مرتب يفي بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. كل دول العالم المستقرة، الغنية منها والأقل غنى، لديها قوانين تضمن كرامة المواطن في سن الشيخوخة وقد آن للعراق أن يحذو حذوها.
حميد الكفائي

http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=51187