ما الذي دفع النخب العراقية للنظر بعين الريبة والشك إلى دور الإسلاميين ومسؤوليتهم كقادة في العراق الجديد؟ لم أشاد رئيس الحكومة بلون واحد فقط من ضحايا العسف الصدامي، والذين هم بلا أدنى شك كانوا ضحايا للدكتاتورية البغيضة وتعسف السلطة المقبور لكن هذا لا يلغي ما قدمه الآخرون؟
يحدو العراقيين الأمل في الوصول إلى جو تسوده الثقة وتمتلكه الإرادة الواعية لتأخذ بمبادرة المصالحة الوطنية من حيث انتهت في هذا المتسع من التطورات والمباحثات بين من هم في قلب العملية السياسية ومن هم خارج دائرتها.. ويملكني الفخر أن يكون العراق وشعبه ومستقبله في دائرة الهم الوطني لحكومة منتخبة تدشن عهدا جديدا بعد عقود من الدكتاتورية التي صادرت حرية العراقيين وحقوقهم التي تأتي السياسية والثقافية في مقدمتها..
ومن موقع انتمائي إلى التجربة الإسلامية منذ مراحلها الأولى في العمل السياسي بالعراق والتي ينتمي إليها أيضا رئيس الحكومة منذ أن كانت في المرحلة السرية من أغلب مواقعها إذ كنت من بين عدد من الدعاة في المثول أمام محكمة الثورة سيئة الصيت في أوائل العام 1973 والإدانة في قضية سياسية لأول مرة في تاريخ حزب الدعوة الإسلامية…
وبكل سرور ما أتمناه لمدرسة الدعوة بمختلف فصائلها ان تتعايش مع الآخر وان تطرح مضادات الديمقراطية والليبرالية جانبا سواء في العمل التعبوي أوفي الفكر السياسي…ولا يفوتني الإشارة إلى أن عهد تقديس الفكر وهو بطبيعته منتج إنساني قد انتهى، ولم يعد يليق بمسيرتنا الرائدة في الحياة المفعمة بالتجدد، أن نحتكر الحقيقة بل أن نحث الخطى لخدمة بلدنا كتلا وأحزابا أو أفرادا مستقلين، قيادات وقواعد وجماهير…
ومن هنا لا ينبغي التردد في توجيه النقد إلى الحكومة التي نفترضها بنت هذا الشعب حيث صوت لها ومنحها الثقة من خلال ممثليه ودافعنا هو الحفاظ على المكتسب الديمقراطي ولئلا تقع هذه الحكومة في العهد الجديد في ما وقع فيه السلف السياسي الفاسد لأربعين عاما عاثوا خلالها في العراق فسادا منذ عام 1963 عدا حقبة بسيطة سبقت انقلابهم الأخير عام 1968..
وحين نتناول واحدة من قضايانا فلا بد أن نبدأ بالوطن وننطلق منه، ثم نعود إليه في النتيجة.. فالعراق هو الأب الذي التصق بأبنائه ولم يغادرهم لحظة حتى في المنافي على الرغم من قسوتها، حتى لا نسمح لدكتاتورية بلبوس جديد ان تبرز ثانية مستندة إلى التقديس والتنزيه للمسؤولين والقادة والرموز من أي اتجاه سياسي، فالذي ينزه هو الله فقط، ولنملك الشجاعة في قبول الآخر المختلف ونقد أنفسنا في نفس الوقت كشأن من شؤوننا كرواد لبناء جديد في عراق اليوم…
لكن كما يبدو أننا نعيش أجواء تثير كثيرا من القلق حيث بدأت النخب العراقية تنظر بعين الريبة والشك في ما يحمله الإسلاميون في الحكومة من دور يزيد من خطورة مسؤوليتهم كقادة في دولة العراق الجديد. وبإمكان المراقب أن يلحظ صورا وتعبيرات من خلال كلمة لرئيس الوزراء بمناسبة النطق بحكم الإعدام على الدكتاتور يوم الأحد الخامس من الشهر الجاري.. الكلمة لم تنسج بأسلوب يوحي للعراقيين بأن صوت الحكومة هو صوتهم جميعا وليس صوت الحزب الذي ينتمي إليه رئيسها؛ فكلمته المتلفزة أشادت بلون واحد من ضحايا العسف الصدامي وتحديدا الإسلاميين منهم، والذين هم بلا أدنى شك كانوا ضحايا للدكتاتورية البغيضة وتعسف السلطة المقبورة التي سامت العراقيين الذل والهوان والقتل والتصفية بالجملة.
كنت أتمنى لو أن السيد نوري المالكي توخى الدقة في تعاطفه مع الضحايا من رجال العراق ونسائه ونخبته المتقدمة من جميع الاتجاهات والتي ما كانت لتبيع مبادئها ومواقفها إزاء العسف الدكتاتوري مقابل السلامة أو الهدنة مع الدكتاتور، والإسلاميون في طليعتهم..
ألم يكن الأجدر به أن يلون اللوحة التي ذكرها بأسماء الشهداء من ضحايا من مختلف الاتجاهات إسلاميين وشيوعيين وقوميات وغيرهم من المعارضين لصدام ممن كانوا في صفوف الحزب الحاكم حتى عام 79 أو في الثمانينات ممن لقي مصيره إعداما وتمثيلا واحتقارا..
ألا يتذكر المالكي انتفاضة الرمادي في أواسط التسعينات والتي راح ضحيتها العديد من الشهداء، ما يعينه كأرقام تصب في صالح مبادرته الرائدة للمصالحة الوطنية.. كما لا أظن رئيس الحكومة ينكر أن العراق هو الحاضنة للجميع الذين يمثلهم أعضاء في مجلس النواب بل وزراء في حكومته..
إن تحلي المسئولين بالروح الأبوية لكل العراق هو المقياس الوطني الذي يعتمده الشعب في الاقتراب من المؤسسات السياسية والحكومة واحتضانها والوقوف إلى جانبها في المعضلات القاسية، وفي البناء وتطويع النفوس للعملية السياسية والدعوة إلى قبول وتبني مبادرة المصالحة الوطنية التي أعلنها رئيس الحكومة نوري المالكي منذ أربعة أشهر..
ان التنويه بلون واحد من ضحايا العسف الصدامي وهو اللون الإسلامي فقط ، والذي لا غبار عليه، من شأنه أن يلفت نظر الآخرين من العراقيين وينبه أحزابهم واتجاهاتهم السياسية إلى أن السيد رئيس الوزراء ينتمي إلى فصيل عراقي هو حزب الدعوة الإسلامية وأنه يمثله فقط، لا العراق وشعبه بكافة أطيافه السياسية.. وهنا تكمن الخطورة في طرح الانطباع القائل أن الإسلاميين قد ينسلخون يوما من الديمقراطية إذا ثبتت مواقعهم بقوة في السلطة وهو انطباع لا شك خطير وتجب المبادرة إلى إثبات عكسه عمليا في الحاضر والمستقبل…