إيلاف 31 أكتوبر 2006
مما لا شك فيه ان لوسائل الإعلام في العالم القابلية على التأثير في سيكولوجية المتلقي وتحديد معالم توجهاته، والتأثير في اتجاه بوصلة رغباته وتطلعاته المستقبلية.. و تُعَد وسائل الإعلام أخطر أساليب الاتصال الجماعي التي عرفتها البشرية، فهي أسرع وسيلة يتلقى عن طريقها الإنسان المعلومة بشكلها الكامل.
والرهان على الإعلام في عالم متغير ومتطور بسرعة مذهلة أصبح من الضرورات، بل من الأهمية بمكان وزمان للتعجيل في تحقيق أهداف ربما كان الوصول أو مجرد الاقتراب منها قد يأخذ فترة زمنية ليست بالقصيرة.. من هذا المنطلق احسب ان الإعلام في العراق بعد الاحتلال كان له أثر كبير في نفسية وتفكير المواطن العراقي الذي يتلقى ضربات صاعقة من بعض وسائل الإعلام العربية المراهنة على تعذيب الذات العراقية أيما تعذيب بجرعات في الغالب تكون مبرمجة وموجهة الوجهة التي تتناسب وإستراتيجية رب العمل أو صاحب رأس المال(الممول)!

في طليعة القنوات الفضائية العراقية
وتجدر الإشارة إلى أن قنوات فضائية عراقية لعبت ومازلت دوراً في تحدي المألوف العراقي، ونقل المُشاهد النقلة النوعية التي تتوائم وسياسة التغيير: من أين إلى أين؟ حيث حرصت تلك القنوات على المزاوجة بين تطلعات وطموحات المواطن العراقي والواقع الذي يعيشه، على العكس تماماً من قنوات أخرى كانت في الغالب تراهن على اللعب على الوتر الحساس ومداعبة مخيلة المواطن بأحلام ممزوجة بآفاق مستقبلية صعبة المنال هي أقرب إلى الفنتازيا منها إلى الواقعية!! في هذا الوقت كان خط قناة “الشرقية” الرائدة في مجالها والتي أُثيرت حول تغطيتها الإعلامية للحدث العراقي الكثير من علامات الاستفهام، كان خطها واضحاً يشير إلى الواقع ويعبر عن محنة يومية يمر بها المواطن على جميع المحافل والأصعدة، وبالرغم من تلقيها الضربات الموجعة إعلاميا من الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية الأخرى؛ إلا أنها صمدت وربما تكون قد نالت أخيراً وحققت خطط وبرامج طويلة الأجل للتعامل بدينامكية الحدث والانفلات من عقدة التبعية للسلطة الحاكمة من جهة وللممول من جهة أخرى.

عقدة التبعية

يقال إن الإعلام تابع لمالك رأس المال(الممول) بوصفه جهة أو هوية معنوية ومادية، فقد يكون دولة، أو شركة مساهمة، أو ربما تجار( رجال أعمال) وما أكثرهم في زماننا هذا! حيث تحول فتح قنوات فضائية أشبه بـ”الدكاكين” إلى مهنة من لا مهنة له وهي بالمناسبة مهنة مربحة جداً..وعندما تصح هذه المقولة يتحول الإعلامي إلى بوق لرب العمل ينفذ رغباته ويسير على خطى رسمتها ريشة المالك لتنفيذ إستراتيجية أكبر من أن يفهمها أو يغوص في أعماقها ويفك طلاسمها موظف بسيط يريد أن يرتزق وعائلته من هذا المكان أو ذلك.إن أكبر مصيبة حقاً أن يُلف حول رقبة الإعلامي حبل التبعية للسلطة الحاكمة مالكة المشروع أو الممول، حيث تتميز مرحلة العمل بالانحياز الكامل لجهة واحدة دون سواها إلى الدرجة التي يمل المشاهد من رتابة تسويق الأكاذيب والتمجيد لشخص الممول إلى الدرجة التي يبدأ بتحسس ذقنه فقد يكون قد مر بمرحلة الضحك على الذقون دون أن يعلم!!

كيف يلعب الإعلام العراقي دور المنقذ؟

النمطية والروتينية والانحصار بالإضافة إلى المحلية والاقتباس وأخيراً الضياع، هي مراحل مرت بها أغلب القنوات الفضائية العراقية بعضها تمكن من الإفلات من تلك العقد والبعض الآخر مازال يراوح مكانه في عملية تبديل وجوه فاتنة لا تتخللها عملية تغيير في الخطط والبرامج وإستراتيجيات العمل.وبطبيعة الحال فليس هناك أشد من معاناة المُشاهد وهو يرى المذيع الفلاني أو العلاني وهو يلعع بصوته ناقلاً صورة لا تمت للواقع بشيء.. وقد تقاطر على الإعلام العراقي الجديد عشرات القنوات الفضائية لم يؤد الكثير منها- باستثناء الشرقية التي كما قلنا لم تسلم من النقد والتقريع- دورها بالشكل الاحترافي المرموق، حيث ظل أغلبها سلبي إلى حد كبير.. البعض يجامل السلطة الحاكمة، والآخر يعظم من شأن هذه الشخصية أو تلك، في حين يمجد ثالث بمرحلة غابرة ولت وانتهت، أما المجموعة الرابعة فكانت في صراع مع نفسها لا تتغلب عليه، حيث كان ولاءها لدول أو أحزاب ومنظمات مولتها لتلميع صورتها(صورة تلك الجهات)، أو لنشر سمومها بين أبناء البلد الواحد!يقول الإعلامي العراقي المعروف “حميد الكفائي” في مقاله الموسوم “دور الإعلام في المصالحة الوطنية العراقية” المنشور في إيلاف:

 

((المشكلة في العراق هي غياب الإعلام الحر المستقل المحايد الذي ينقل لنا الحقيقة، فمعظم وسائل الإعلام غير مستقلة، فهي أما حزبية أو شخصية تتبنى وجهات نظر سياسية أو دينية أو طائفية أو قومية أو مناطقية محددة، ومن هنا فإن أيا منها يتبنى رأيا معينا يضعه أمام متلقيه ويحاول أن يدفع باتجاه قبوله كحقيقة.))

مستلزمات لتطوير عمل القنوات الفضائية العراقية
قد تلعب تلك الفضائيات العراقية في المرحلة المقبلة دوراً منتظراً منها في حال صححت سياستها وطموحاتها الفنتازية لتلامس الواقع العراقي بشكله الصحيح، عليها أن تسمي الأسماء بمسمياتها.. صحيح ان التعددية في الآراء شيء جميل لا يختلف عليه اثنان، ولكن معارك نشر الغسيل على الهواء بالتأكيد تضر في قضية بلد مازال قلبه ينبض بالحياة رغم كونه مثخناً بالجراح..وهذه دعوة للكف عن كيل الشتائم لحركات ورموز وشخصيات وطنية عن طريق الاتصالات المفبركة التي تتلقاها تلك القنوات، في حركة ساذجة ومفضوحة لا تخفى على أحد.
- الحيادية والموضوعية والابتعاد عما يريده الممول أو “الجهة المانحة” بالقدر المطلوب قد يعزز من مصداقية القناة ويزيد أسهمها لدى المواطن.
- الالتزام بأخلاقيات العمل الإعلامي ومواثيق الشرف المهني.- نقل الحدث كما هو دون زيادة أو نقصان بواقعية وحيادية وحرفية دون التلاعب بالألفاظ أو المسميات والابتعاد عن أية إثارة.
- التأكيد على الصلة الوثيقة بين التطور التكنولوجي و الالتفات لدور الإعلام في نشر القيم و تعميق المفاهيم والثقافات الحديثة بين صفوف المواطنين.
- الخروج من جلباب الكلاسيكية في العمل، والخروج من عنق زجاجة “شخصنة الحدث”. - الاستعانة بالخبرات الإعلامية الوطنية الكفؤة، وإبعاد الدخلاء على المهنة وما أكثرهم اليوم.
- الاستمرار في تأهيل الكفاءات الوطنية والانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربه، وعدم الانغلاق والدوران في فلك المحلي.

وأخيراً…عليه فان المطلوب من المؤسسات الإعلامية في هذه المرحلة التاريخية المهمة ليس فقط في العراق، بل في المنطقة برمتها، أن تتفهم الدور الذي يلعبه الإعلام وأن تسعى لتطويره على أسس عقلانية وأن تُعيد النظر في فلسفلة الإعلام، ولموقعها كواجهة مهمة لنقل الحدث، لتتوافق ومتطلبات المرحلة الحالية.

*إعلامي وصحافي عراقي
maadalshemeri@yahoo.com