الحياة اللندنية، 31 تموز/يوليو 2011
منذ تغيير النظام عام 2003 والأوساط السياسية العراقية لم تكُف عن الحديث في مسألة ازدواجية الجنسية وحقوق «أهل الداخل» وهيمنة «أهل الخارج» وكأنها مشكلة المشاكل وليست قضية هامشية تجاوزتها كل بلدان العالم المتحضر. وأثناء صياغة الدستور عام 2005 اشترط «أهل الداخل»، المتوجسون خوفاً وريبة من «أهل الخارج»، إدراج مادة دستورية هي المادة 18- رابعاً، تمنع عراقيي الخارج، من حاملي الجنسية الأجنبية، من حق تولي المناصب السيادية والأمنية.

وقد وافق «أهل الخارج» على مضض على إدراج هذه الفقرة التي اشترطت سن قانون لتنظيم العملية. لكن ذلك القانون لم يُسن حتى الآن مع مرور ست سنوات على تبني الدستور والسبب هو أن معظم قادة العراق اليوم هم من «أهل الخارج» من مزدوجي الجنسية، بل يحمل بعضهم ثلاث جنسيات أو أربع، لذلك لم يسعوا لسن قانون يحرمهم من حقوقهم ولا أحسبهم يسارعون إلى ذلك حتى يوشكون على التقاعد.

وبين قائمة مشاريع القوانين المهمة الكثيرة التي تتصدر جدول أعمال البرلمان العراقي، يحتل مشروع قانون منع حملة الجنسية الأجنبية من تولي مناصب سيادية وأمنية أولوية عند البعض تتقدم على قوانين أخرى مهمة مثل قانون الأحزاب الذي يعتبر أساسياً لأي ديموقراطية في العالم، إلا العراق، وكذلك المادة 142 القاضية بتعديل الدستور خلال أربعة أشهر من انعقاد برلمان عام 2006 والتي أصبحت من المنسيات على رغم إدراك الجميع ضرورة تعديل الدستور.

من الواضح أن النص الدستوري في المادة 18-رابعاً يفترض أن ازدواجية الجنسية تشكل خللاً في نزاهة الشخص بحيث أنه لا يمكن الوثوق به كلياً وإيكال مهام حساسة له كإدارة الأمن والنفط والداخلية والخارجية والمالية والتخطيط. وهذه «التهمة» تشمل حالياً أكثر من خمسة ملايين عراقي، وسوف تشمل أبناءهم وبناتهم مستقبلاً، من المهاجرين عبر الأزمنة العراقية المتوالية منذ عام 1958.

كما تفترض المادة أن العراقي الذي يحمل جنسية واحدة هو أكثر أهلية لتولي المنصب السيادي باعتباره أكثر إخلاصاً وولاء للبلد باعتبار أن الجنسية الثانية تعوق عمله من أجل بلده الأول وأن البلد الثاني سيكون بالضرورة «ملاذاً» محتملاً لمن يسيء استخدام سلطته أو يتعدى على المال العام، وإن هو أسقط الجنسية فإنه سيكون عندئذ «مضطراً» لأن يكون أميناً ومخلصاً لبلده لأنه لن يجد مهرباً إن ساورته نفسه الخيانة!

من المحزن حقاً أن يتعامل عراقيون مع قضايا مهمة بهذا التبسيط. الشـــرف والوطنية والالتزام المهني لا تحددها الجنسية أو أي وثيقة ورقية أخرى بل يحددها الضمير الإنساني والكفاءة والتدريب المهني الصحيح للأشخاص. فكم حاملِ جنسية واحدة قد خان الأمانة وهرب بالأموال العامة!

وكم حامل جنسيتين أو ثلاثة أدى عمله على أكمل وجه وبما يرضي ضميره المهني! لقد حافظ على المال العام متعاقدون أجانب لا تربطهم بالبلد أي روابط بينما ضعف كثيرون من أبنائه أمام أصغر الإغراءات.

فأهم شرط لتولي أي وظيفة مهما صغُرت في أي بلد هو الأمانة والنزاهة، فإن كانت الجنسية الأخرى تخل بالأمانة أو النزاهة، عندئذ يجب عدم الوثوق بأي شخص يحمل جنسيتين حتى في الوظائف الصغيرة.

في كثير من دول العالم هناك أجانب يتبوأون مواقع حساسة في البلد ولم يخطر ببال مسؤولي الدول التي يعملون فيها أنهم يمكن أن «يخونوا» الأمانة لمجرد أنهم يحملون وثائق ثبوتية من دول أخرى. فمن ينتهك القانون يحاسبه القانون ذاته ســـواء كان أجنبياً أم من أهل البلد. في بعض الحالات تُمنح الجنسية لرياضيين أو فنانين أو علماء وخبراء من بلدان أخرى حتى قبل أن تطأ أقدامهم البلدان التي منحتهم جنســـيتها من أجل تسهيل انتقالهم إلى تلك البلدان وعملهم فيها ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال تخلي هؤلاء عن هوياتهم الأصلية أو مشاعرهم الوطنية.

كذلك فإسقاط الجنسية الثانية لن يجرد حاملها من كل حقوقه بل سيبقى يتمتع بحق الإقامة الدائمة الذي يساويه بالمواطن في كثير من الحالات. وليس من الصعب هذه الأيام على أي إنسان يمتلك المال أن يحصل على تصريح لدخول أي بلد لأن معظم البلدان تشترط توافر المال لدى المتقدم لنيل التصريح فإن امتلكه فلا مانع لديها من إدخاله. لا تعدو الجنسية عن كونها وثيقة ثبوتية تسهِّل تنقل حاملها وتعزز قدراته وحقوقه في البلد الآخر وهي لا تضفي أخلاقا جديدة على حاملها كي تتغير أخلاقه عندما يُسقِطها ولا تجرده من أخلاقه الأصيلة إن حصل عليها.

العالم يتجه نحو العولمة والاختـــلاط والتوحد والعراقيون يشكـــكون ببعـــضهم بعضاً ويشغـــلون أنفســـهم وبلدهم بقضايا تؤخرهم ولم تعد تشكل اهتماماً لأحد في عالم اليــوم الذي أصبح فيه باراك أوباما، ابن الكيني المســـلم حـــسين أوبـــاما، رئيـــساً للولايات المتحدة الأميركية، ونيكولا ساركوزي، ابن الهنغاري بال ستيفان ساركوزي، رئيساً لفرنسا، وأد مليباند، ابن البولندي اليهودي رالف مليباند، رئيساً محتملاً لوزراء بريطانيا، باعتباره زعيماً لحزب العمال المعارض، والألماني هنري كيسنجر وزيراً للخارجية الأميركية لدورتين متتاليتين، وهناك مـــئات غيرهم من رؤســـاء ووزراء ومســــؤولين. لم يُطلب من هــؤلاء التبرؤ من أوطانهم الأصلية كي يخــدموا بلدانهم الجـــديدة لأن افتراض حسن الظن متــوقع في القوانين المدنية المتحضرة. كما لم تمنع ازدواجية الجنسية اللبنانيين من تولي أعلى المناصب وبينها رئاسة البرلمان والوزراء والجمهورية.

عراقيو الخارج اكتسبوا خبرة وتجربة لم يحصل عليها أقرانهم في الداخل وبإمكـــانهم أن ينقلوا ما لديهم إلى بلدهم لخدمة أهله لو أن الحكومة شجعتهم على العودة وألغت العراقيل التي توضع في طـــريقهم. امتلاكهم لجنسيات أخرى يساعدهم على خدمة العراق لأنه يسهِّل تنقلهم بين دول العالم لتأدية واجباتهم الوطنية ويعطيهم قوة في تلك البلدان يمكن أن يستخدموها لمصلحة بلادهم، فكم من مرة يُمنع بها وزير عراقي من حضور مؤتمر أو اجتماع مهم في الخارج لأنه لم يتمكن من الحصول على التأشيرة المطلوبة كما حصل لوزير الثقافة في أيلول (سبتمبر) 2008.

استهداف هذه الشريحة المهمة سيلحق أضراراً كبيرة بالعراق وهو بالتأكيد يضر بمصلحة أهل الداخل لأنهم بحاجة ماســة لخبرات هؤلاء وتجاربهم ومهاراتهم وعلاقاتهم، خصوصاً إذا ما علمنا أن كثيرين منهم عادوا إلى بلدهم ليس عن حاجة لعمل أو طلباً لمنصب بل لأنهم أرادوا تقديم ما لديهم من خبرة لبلد أحبوه وضحوا وهاجروا من أجله.


http://international.daralhayat.com/internationalarticle/293035