الحياة اللندنية-18/2/2011
لا يمكن وصف الثورة المصرية إلا بالعظيمة، فلأول مرة في التاريخ العربي الحديث تتمكن ثورة شعبية يقودها الناس العاديون من تغيير نظام سياسي مخضرم. لقد اعتدنا أن تتغير أنظمتنا السياسية عبر انقلابات عسكرية سميناها خطأً «ثورات»، كما حصل في انقلابات 1952 في مصر و1958 في العراق و1962 في اليمن و1969 في ليبيا، والانقلابات المتعاقبة في سورية بين 1949-1970. لكن الوضع اختلف جذرياً الآن، فالشبان المصريون، ومن قَبْلهم التونسيون، هم الذين قادوا حركة التغيير، بينما وقف الضباط، مشكورين، على الحياد. لقد أصبح شعار ثورة المصريين «الشعب يريد إسقاط النظام» أُهزوجةً تنشدها الجماهير العربية المطالِبة بالحرية، غرباً وشرقاً وجنوباً. التجربة التونسية رائدة وملهِمة، وهي التي فتحت عيون الشعوب العربية على وسيلة حضارية وسلمية للتغيير، لكن التجربة المصرية ستكون القدوة، لما لمصر من تأثير في العالم العربي.

لكن بعد إسقاط النظام، تأتي العملية الأصعب، ألا وهي بناء نظام جديد وفق مواصفات عصرية تحفظ حقوق الشعب وتمنع قيام الدكتاتورية مرة أخرى. العراقيون مرّوا بتجربة إقامة نظام جديد أُريدَ له أن يكون ديموقراطياً، منذ إسقاط النظام عام 2003، لكنهم – خلافاً للمصريين والتونسيين – لم يحظوا بشرف تغيير النظام الدكتاتوري بأنفسهم، رغم محاولاتهم الكثيرة، الشعبية منها والعسكرية، التي قدموا فيها آلاف الضحايا، وفشلوا لأسباب لا يتسع المقال لذكرها. وبصرف النظر عن الطريقة التي سقط فيها النظام العراقي، وهي بالتأكيد ليست مثلى أو محبذة للعراقيين، فإن تجربة بناء المؤسسات الديموقراطية وصياغة الدستور وإجراء الانتخابات في العراق خلال السنوات الثماني الماضية، جديرة بالدراسة من قِبَل التونسيين والمصريين، كي لا يكرروا الأخطاء الفادحة التي ارتكبها العراقيون.

أول ما يجب عمله هو صياغة دستور جديد يؤسس لنظام جديد. في العراق، ظل السياسيون يتجادلون لعامين ونصف العام حول الدستور، واضطروا في بادئ الأمر إلى سن دستور مؤقت سُمِّي «قانون إدارة الدولة»، أجريت بموجبه الانتخابات الأولى التي أنتجت جمعية وطنية مؤقتة اضطلعت بمهمة صياغة دستور «دائم» للبلاد. وبسبب العجلة وصياغة دستورين خلال فترة قصيرة، وإصرار بعض القوى السياسية على أن يُكتب الدستور بـ «أياد عراقية منتخَبة»، جاء الدستور الحالي متضمناً تناقضات كثيرة كنت قد ذكرتها في مقال سابق. ليس مهماً أن يكون الذين يكتبون الدستور منتخَبين، لأن الدستور سوف يُعرض في نهاية المطاف على الشعب لإقراره في استفتاء عام، والأفضل أن تُشكَّل لجنة من المتخصصين تتفق عليها القوى السياسية لكتابة الدستور. ولد الدستور العراقي عليلاً، لأن مَن صاغوه لم يكونوا متخصصين، وكانوا في عجلة من أمرهم بهدف اللحاق بالمواعيد التي وضعها الدستور المؤقت، والتي أصر عليها الأميركيون لأسباب تتعلق بأجندات أميركية داخلية لا علاقة لها بمصلحة العراق. من الضروري جداً أن يصاغ الدستور لجميع أبناء الشعب، وليس وفقاً لمزاج من يدعي تمثيل «الأغلبية». الدستور مبادئ تسعى إلى تحقيق العدالة وصيانة الحريات والحقوق لكل المواطنين، وليس وثيقة سياسية تهدف لدغدغة مشاعر هذا أو تهدئة هواجس ذاك. بعض من شاركوا في كتابة الدستور العراقي كانوا مصابين بهوس ديني وطائفي لا مبرر له سوى انعدام الخبرة والحنكة السياسية، بينما كان البعض الآخر يتصيد في الماء العكر كي يحقق مكاسب سياسية عبر رفع شعارات طائفية أو دينية، وقد استفادوا فعلاً وأصبحوا أصحاب شأن ونفوذ بفضل تلك الممارسات التي ألحقت ضرراً كبيراً ببنية الشعب العراقي وفرص تقدمه.
لا حاجة إلى أن ينص الدستور على العقائد الدينية، لأن مثل هذه العقائد تحيا في ضمائر حامليها ولن ينفعها أن تكون مدوَّنة في الدستور، ولن يضرها إن لم تُدوَّن. ليس هناك دستور مكتوب في بريطانيا مثلاً، لكن هناك التزاماً أخلاقياً يعمل به السياسيون، ولم يحصل في التاريخ الحديث أن أحداً تجاوزه قيد أنملة! القضية المهمة الأخرى هي التعامل مع رموز النظام السابق ورجاله ومنفذي أوامره. يجب ألا تتكرر تجربة «اجتثاث البعث» في العراق، التي أراد البعض منها، عراقيين وأميركان، محاكاة تجربة الألمان في اجتثاث النازية، مع الفارق الكبير بين البعث والنازية والعراق وألمانيا. التجربة الألمانية كانت خاطئة بامتياز، وقد أدرك ذلك الأميركيون والأوربيون الذين فرضوها. لم يحُلَّ قانون «اجتثاث البعث» أيَّ مشكلة، بل خلق مشاكل جديدة وأحقاداً عميقة سيبقى العراق يدفع ثمنها لعقود مقبلة. يجب أن يتعامل النظام الجديد مع المواطنين على أسس العدالة والمساواة، بمن فيهم الذين تولوا مناصب عليا في النظام السابق. نعم، هناك متجاوزون ومسيئون يجب أن يحاسبوا، ولكن يجب أن تُحدد فترة لا تتجاوز العامين لحسم هذه المسألة نهائياً، كي لا تؤجَّج العداوات وتُستغَل لتصفية الحسابات وتلاحِق الأجيال بعواقبها. لا بد من أن تتركز الجهود جميعها على بناء المستقبل وليس محاكمة الماضي.

يجب أن تكتمل كل الهياكل التنظيمية والقوانين الضرورية للانتخابات والأحزاب، بما في ذلك البيانات المتعلقة بالناخبين، قبل تحديد موعد للانتخابات، مهما استغرق ذلك من زمن. هناك ضرورة إلى جعل الانتخابات مهنية وشفافة وعادلة، وأن تراقب بدقة، وطنياً ودولياً. كما يجب أن تتشكل المفوضية المشرفة على الانتخابات من أشخاص مستقلين يتمتعون بالنزاهة والمهنية، كي يتمكنوا من إجراء انتخابات حرة ونزيهة وعادلة. ومن المهم جداً أن ينص الدستور صراحة على منع تأسيس الأحزاب على أسس عرقية أو دينية أو طائفية، وهذا الأمر في غاية الأهمية، لأن العمل السياسي يجب أن يكون لخدمة المواطنين جميعاً وليس جزء منهم. نعم، يجب أن تُمنع أي مجموعة سياسية تسعى للتمييز بين أفراد المجتمع، خصوصاً إن كان ذلك على أسس عنصرية أو طائفية، ولينظر المصريون والتونسيون إلى ما حصل ويحصل في العراق من صراعات دينية وطائفية ساهمت في تعميق النزاعات والخصومات والتأسيس لخلافات جديدة، وجاءت بغير الأكفاء للقيادة. لقد أدرك العراقيون بمرور الزمن، أن هناك ضرورة لفصل الدين عن السياسة، وقد انطلقت مؤخراً حملة وطنية واسعة النطاق تهدف إلى طرح هذه المسألة بقوة على الرأي العام العراقي، لإقناعه أن المصلحة الوطنية تقتضي مثل هذا الفصل، الذي سينفع الدين والسياسة معاً ويمنع المتاجرة بالدين لأغراض سياسية. لقد نالت الحملة حتى الآن تأييد الآلاف من طليعة المجتمع، وهي متوافرة في الإنترنت لمن يريد التوقيع عليها (www.seculariraq.org). إن هناك حاجة ماسة إلى استفادة الآخرين من الأخطاء التي وقع فيها العراقيون، فالمجتمع البشري لم يتقدم إلا عبر تراكم التجارب والاستفادة من نجاحات السابقين وتعلم الدروس من إخفاقاتهم.