تكامل الأدوار بين إيران والوكلاء

النهار العربي البيروتية 22 آذار 2024

ليس هناك وهم عند دول العالم حول علاقة إيران بالمليشيات المسلحة في العراق ولبنان واليمن وسوريا، وبلدان أخرى في أقاصي الأرض، من الفلبين إلى أفغانستان وباكستان. لكن إيران، أمام كل هذا الإجماع العالمي، تتبرأ رسميا من هذه الجماعات المسلحة التي أسستها ودربتها وسلحتها وموَّلتها منذ عام 1979 حتى اليوم، فتدعي بأن لا سلطة لها عليها، وأن لديها أجندات “مستقلة”.

الغريب أن الأجندات “المستقلة” لهذه الجماعات تنطبق كليا مع أجندات النظام الإيراني وسياساته وتوجهاته. كما أن خطاب هذه الجماعات يتطابق حد التماهي مع خطاب النظام الإيراني، بل إنها لا تبخل على الآخرين بالمعلومات، فتصرح علنا بأنها ممولة ومرتبطة بالنظام الإيراني وأنها تتبع الولي الفقيه دينيا وسياسيا.

الحقيقة أن هذه الجماعات لا تمتلك قرارا مستقلا، بل هي تطيع الأوامر الصادرة لها من قادة الحرس الثوري، حتى وإن كانت تعود عليها بالضرر، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بفيلق القدس، الذي أُسِّس خصيصا للتدخل في شؤن الدول الأخرى، ويعتبر أهم مكونات الحرس الثوري، ومرتبط بالولي الفقيه مباشرة.

الهدف من ادّعاء إيران بأن المليشيات المسلحة غير مرتبطة بها، هو تجنب هجمات مباشرة من الدول المتضررة من هذه الجماعات. لم يقتنع أحد بإنكار إيران علاقتها بالجماعات المسلحة، لأن هذه المليشيات، ليست مرتبطة بإيران فحسب، بل ما كانت لتوجد أصلا، لولا جهود النظام الإيراني الحثيثة، على مدى عقود، في تأسيسها وتسليحها وتدريبها وتوفير ما تحتاجه من معلومات وإرشاد ديني وفتاوى.

            قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، مع عمار الحكيم رئيس تيار الحكمة (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق سابقا)

ليس في مصلحة المليشيات العراقية أن تهاجم القوات أو المصالح الأمريكية، لأنها تعلم بأن أمريكا دولة عظمى، وأنها سترد بقوة، ولديها من المعلومات الاستخبارية ما يمكِّنها من تحديد الجماعات المسؤولة عن هذه الهجمات، بل وتشخيص حتى الأفراد المسؤولين عنها ورصد تحركاتهم والوصول إليهم، كما حصل في استهداف أبو تقوى السعيدي وأبو باقر الساعدي مؤخرا.

المليشيات العراقية تحديدا جزء لا يتجزأ من القوى الممسكة بالسلطة في العراق، وقد راكم قادتها أموالا طائلة من الدولة العراقية، ولديهم الآن مصالح واسعة في العراق، وأي صِدام بين المليشيات وأمريكا سوف يربك هذه المصالح الاقتصادية، ويضعف الجماعات أو يقضي عليها كليا، ولو كان الخيار لها، لما تحرشت بأمريكا مطلقا، لأنها تعلم بأن المعركة غير متكافئة.

لكنها مضطرة لذلك، بحكم ارتباطها العضوي والأيديولوجي بإيران، وكون إيران ملاذها الأخير عندما تضيق السبل بأفرادها في بلدانهم، عند ارتكابهم أعمال قتل وخطف أو عندما تنكشف سرقاتهم، فلن يجدوا من يحميهم سوى إيران.

                                                                                                  أبو آلاء الولائي قائد مليشيا كتائب سيد الشهداء مع الجنرال إسماعيل قاآني

إن عجز العراق عن ردع المليشيات ودفعها للالتزام بالقانون العراقي، واتباع التوجيهات الصادرة لها من القادة العسكريين، وفي مقدمتهم القائد العام للقوات المسلحة، محمد شياع السوداني، ليس بسبب عدم قدرة الدولة على لجم مجاميع مسلحة صغيرة متناحرة، فالدولة العراقية أقوى منها جميعا، ويمكنها أن تلجمها وتقضي عليها، لو توفرت الإرادة السياسية.

سبب التردد في مواجهة المليشيات هو أن إيران، تقف إلى جانبها بكل قوتها، لأنها تشكل جزءا أساسيا من مشروعها الأيديولوجي التوسعي في العراق والمنطقة. الحكومات العراقية المعاقبة، على الأقل منذ عام 2010، بعد تخلي الولايات المتحدة عن العراق في عهد الرئيس أوباما، مدينة لإيران في وصولها إلى السلطة وبقائها فيها، لذلك تحرص على إرضائها وعدم المساس بوكلائها في العراق.

وتضرب إيران هذه الجماعات بعضها ببعض، بهدف إضعافها وإبقائها بحاجة دائمة إلى إيران. وكل من يفكر بأن يسلك سلوكا وطنيا عراقيا، أو يقدم مصلحة العراق على المصالح الأخرى، يعلم بأن النتائج ستكون وخيمة عليه، لأن هناك دائما مجموعة مسلحة ستتصدى له، لذلك صارت هذه الجماعات تتنافس على خدمة إيران، أولا كي تبقى في الساحة، وثانيا كي تحصل على حصة أكبر من المكاسب التي توفرها الدولة.

هناك مصلحة للقوى المشتركة في النظام العراقي أن ترضي إيران بسبب ضعفها الناتج عن تشرذمها وصراع قادتها على المناصب والمكاسب، وهذا الصراع مكَّن إيران من استغلال ضعفها إلى أبعد الحدود.

الانتخابات لم تحل المشكلة حتى الآن، لأن معظم الناخبين عزفوا عن التصويت، وهذا خطأ فادح يرتكبه هؤلاء، ظنا منهم أن الانتخابات سوف تزوَّر في كل الأحوال، وأن الجماعات باقية في السلطة بسبب امتلاكها المال والسلاح وتمتعها بدعم إيران. الوضع الحالي لا يرضي أي حكومة، خصوصا الحكومة الحالية، التي تطمح لأن تكون قادرة على الصمود بوجه الإرادة الخارجية، لكنها مترددة، خشية العواقب غير المنظورة للتمرد على إيران.

                                                          أكرم الكعبي قائد مليشيا النجباء مع قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني

 الحكومات العراقية تخلت طوعا عن صلاحياتها المناطة بها دستوريا وقانونيا، من أجل الاحتفاظ بجزء من السلطة، رغم أن بإمكانها ضبط الأجهزة الأمنية، ولجم المتجاوزين على القانون ممن يتجاهلون أوامر السلطة الشرعية، لكن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، ولا شك أن الوقت سيأتي يوما لمحاسبة الناكصين.

إن وجود جماعات مسلحة مرتبطة بدولة أخرى فعليا، رغم ارتباطها بالدولة العراقية رسميا، هو أمر نشاز ومخل بالسيادة والاستقلال، ويلحق أضرارا فادحة بالمصلحة الوطنية العراقية، لأن مصالح الدول لا تتطابق مطلقا، بل تتضارب في أكثر الأحيان، ووجود كيانات عسكرية تعمل لصالح دولة أخرى، يعني بالضرورة أنها تعمل ضد الدولة التي يفترض بأنها تنتمي إليها.

لقد آن الأوان أن يرفض العراقيون هذا الوضع بقوة، وأن يطالبوا حكومتهم بممارسة صلاحياتها الكاملة التي نص عليها الدستور. الخلط بين الولاء الديني والانتماء الوطني خطير جدا ويهدد كيان الدولة الوطنية. قد يتعرض العراق لعقوبات دولية إن استمرت هذه الحالة الشاذة طويلا.

ميليشيا الحوثي هي الأخرى تعلم بأنها ستتضرر إن عرقلت الملاحة في البحرين، العربي والأحمر، خصوصا وأن إدارة بايدن كانت قد أزالتها من قائمة المنظمات الإرهابية، في محاولة لاستيعابها ودفعها للتصرف كحركة سياسية منضبطة، بدلا من البقاء حركة إرهابية متمردة. لكنها اطاعت الأوامر الإيرانية بمهاجمة السفن التجارية، ما دفع الإدارة الأمريكية إلى إعادتها إلى قائمة المنظمات الإرهابية واستهداف مقراتها وقتل عدد من أفرادها.

إيران لديها مشروع أيديولوجي توسعي في المنطقة، وتسعى لأن تكون قوة إقليمية عظمى، وتريد أن توصل رسالة إلى دول العالم بأنها القوة الوحيدة المؤثرة في الشرق الأوسط، وأن على العالم أجمع أن يتفاوض معها في كل القضايا المتعلقة بالمنطقة.

وكي تبرهن بأنها قادرة على الإضرار بالمصالح الغربية، فإنها تأمر ميليشياتها بالتعرض للسفن التجارية ومهاجمة الأهداف الأمريكية، بل حتى الهيئات الدبلوماسية والمطارات والقواعد العراقية، دون الاكتراث لمصلحة العراق أو سيادته. هناك الآن حجة جديدة تتشدق بها إيران، ألا وهي “الانتصار لغزة”، علما أنها كانت تمارس السياسات نفسها قبل أحداث غزة بعشرات السنين!

ومازال العالم قد قبل بهذا الدور، أو تساهل معه، فإن إيران ستواصل السياسة نفسها، بل ستصعِّد وتتمدد كلما رأت ضعفاً في المواقف الدولية.

 

حميد الكفائي