شبيه الشيء منجذب إليه
إيلاف – الإثنين 24 تموز/ يوليو 2006 
كثيرا ما يُنزه الزعيم أو المدير في بلداننا عن الأخطاء والإخفاقات التي تنتج عن قراراته وإجراءاته، وعادة ما يلام المحيطون به على كل زلة أو غلطة يرتكبها هو بنفسه، وطالما صدّق زعماء بما روّجه المتملقون بأنهم لا يخطئون، وعندما يكون هناك إخفاق أو فشل واضح للعيان، يقوم المسئولون الكبار بإقصاء أحد أعوانهم محمّلينه الخطأ كله. بل كثيرا ما سمعنا من بعض الناس في السابق أن الدكتاتوريين كصدام وغيره هم أشخاص جيدون وقادة منزهون لا يبتغون إلا الخير لشعوبهم! لكن المشكلة هي أنهم محاطون بـ “حاشية فاسدة مرتشية” تبحث عن مكاسب خاصة ولا تهتم لهموم القائد “الوطنية”! وأنها هي التي تفسد عليهم أعمالهم الصالحة وتعيق تحقيقهم لإنجازات كبيرة لصالح البلد!
 
المنسي هنا هو أن الشخص الجيد لا يأتي إلا بأشخاص جيدين مثله لمساعدته في إدارة الأمور، “فالطيور على أشكالها تقع” كما يقول المثل، وأن هؤلاء الزعماء “الجيدين” مسؤولون عن أعمال “حاشياتهم” ومرافقيهم وأن واجبهم الوطني والمهني يدعوهم لمراقبتهم ومعرفة تاريخهم ومؤهلاتهم قبل تعيينهم في مواقعهم، وأن التعيين يجب أن يكون على أسس قانونية كأن تعلن المناصب الشاغرة على الملأ عبر وسائل الإعلام ليتنافس عليها المتنافسون ثم يجري اختيار الأكفأ أو الأصلح في عملية علنية وشفافة.

نحن اليوم أيضا مبتلون بهذه الحواشي التي تحيط بالساسة العراقيين من كل حدب وصوب وتمنعهم من الوصول إلى الناس وتمنع الناس من الوصول إليهم. أعتقد أن اللوم كله يلقى على عاتق الزعيم أو الوزير أو المدير الذي يسمح لهؤلاء بالقيام بأعمال تتنافى مع واجباتهم الأساسية وتتسبب في عزل ذلك المسؤول عن شعبه ومجتمعه. هناك قضية أخرى هي أن الطريقة التي يأتي بها هؤلاء إلى مواقعهم هي خاطئة أيضا، فنحن دائما نميل للمجيء بمن يتفق معنا في الرأي، بل وأحيانا بمن يمتدحنا ويتملق لنا بدلا من أن نأتي بالكفوء وذي الخبرة الذي نتعلم منه ويتعلم منه الآخرون والذي يهدينا إلى الحلول الناجعة لمشاكلنا.
 
والغريب في الأمر أننا لا نكلف أنفسنا عناء البحث عن الأشخاص ومؤهلاتهم وتاريخهم وإنجازاتهم قبل تعيينهم بل نكتفي بأنهم مطيعون لنا ويقولون ما نريد أن نسمعه أو أنهم أعضاء في حزبنا أو مناصرون له. ولا نضع لهم برنامجا لواجباتهم أو أوصافا لمناصبهم وقيودا على صلاحياتهم بل نترك لهم الحبل على الغارب كي يجتهدوا ويخطئوا ثم نكافئهم باعتبار أن من يخطئ له أجر حسنة ومن يصيب له عشر حسنات، أو قد نبتدع لهم الإنجازات والصفات الفريدة كي نخفي خطأنا الأول في اختيارهم لمواقع هم غير أهل لها.
 
أحد المسئولين الكبار عين أحد أتباعه في مسئولية كبيرة لم يكن مؤهلا لها، وبعد عدة أشهر أكتشف أن أخطاء هذا “التابع” الشنيعة بدأت تهدد منصبه هو فقام بمنحه “إجازة مفتوحة” ليحل محله نائبه الذي لم يكن بأفضل منه حالا لأنه عُين بنفس الطريقة التي عُين بها سلفه فارتكب هو الآخر “أخطاء” أو “مخالفات” اضطرت صاحبنا لإبعاده أيضا عن منصبه.

الزعيم المخلص والمدير الحاذق هو القادر على انتقاء الأكفأ والأصلح للمواقع التنفيذية، وهو من يراقب باستمرار وعن كثب أفعال من هم حوله ويتساءل دائما عن كل شيء يحدث قربه، بل ويثير استغرابه عدم حدوث بعض الأشياء. قال لي أحد السياسيين الإيرانيين ذات مرة إن الإمام الخميني تساءل ذات مرة عن سبب عدم ورود رسائل تنتقده وتخالفه في الرأي… فأجابه أحد مساعديه أن هناك الكثير من هذه الرسائل ترد إلى المكتب لكنهم “ينتقون له أفضل الرسائل”! فغضب الإمام غضبا شديدا وقال لمساعديه ليس من حقكم أن تختاروا لي من الرسائل ما تظنون أنه يعجبني. إنني أريد أن أسمع كل ما يقال من نقد، سواء كان إيجابيا أم سلبيا. الإمام الخميني رجل دين وفقيه درَس ودرَّس في الحوزة في إيران والعراق طيلة عمره ولم يعمل يوما في دائرة حكومية أو خاصة ولم يُدِر شركة أو مؤسسة، لكنه انتبه إلى هذه الظاهرة وظواهر أخرى كانت محيطة به لأنه أصبح المسئول الأول في الدولة ويعرف أن من مسئولياته أن يعرف ما يقال عنه وعن أدائه وأداء طاقمه السياسي. سياسيونا اليوم يدّعون أن لهم خبرة في العمل السياسي والإداري وأنهم عملوا في الداخل والخارج لكنهم لا ينتبهون لما يفعله مساعدوهم وحواشيهم، وهذا نقص كبير في الإدارة وخلل كبير في تركيبتهم المهنية والنفسية!!

قبل أيام دعيت لتناول طعام العشاء مع أحد “الأصدقاء” من السياسيين العراقيين والذي أشترك معه في حمل مبادئ كثيرة وربما أقترب من خطه السياسي كثيرا. فاجئني هذا “الصديق” مفاجأة أثناء العشاء كادت توقعني من كرسي المائدة لولا أنني كنت متكئا على جدار قوي يمنعني من السقوط، عندما قال إنه كان يظن أنني انتمي لجهة سياسية أخرى أنا أقف في الحقيقة على النقيض من أطروحاتها السياسية ومنذ زمن بعيد. فقلت له: “ما الذي جعلك تفكر هكذا وكيف توصلت إلى هذا الاستنتاج”؟؟ فقال لي: “ألستَ صديقا لفلان”؟ فقلت بلى فقال “إنه ينتمي إلى تلك الجهة السياسية”؟؟؟ فازددت عجبا وشكرت الله أنني متكئ على جدار قوي. قلت له صحيح أنني صديق لفلان، لكن فلان هو الآخر لا ينتمي إلى هذه الجهة السياسية التي ذكرتها!!! وفي كل الأحوال ما الذي يمنعني من أن أكون صديقا لهذا الشخص أو ذاك ممن ينتمون إلى أحزاب أخرى أعارض بعض أو ربما كل ما تطرحه من أفكار؟؟؟
 
وهذه ليست القصة الأولى في مجال الجهل بأساسيات الأمور، فقد أقدم رئيس وزراء سابق (وما أكثرهم في العراق خلال العامين المنصرمين) على إلغاء تعييني كمستشار لشؤون الثقافة والإعلام في مجلس الوزراء لأنه “سمع”، أكرر “سمع”، من أحد مساعديه أنني “قريب” سياسيا من أحد منافسيه السياسيين!!! ورغم أن الأحداث قد أثبتت خلاف ذلك، لكنه لم يصحح عمله غير المبرر وغير القانوني، والذي نتج عنه ضرر كبير لي شخصيا، ولم يعتذر عن فعلته تلك أبدا. وقد فعل هذا المسؤول الشيء نفسه مع آخرين أيضا إذ ألغى تعييناتهم كمستشارين ومديرين عملا “بنصيحة” مساعده “الأمين” نفسه. ولم يصحح خَلَفَه هذه الإجراءات الخاطئة وغير القانونية بل أكدها وزاد عليها بإلغاء تعيينات أخرى قام بها سلفه، عملا بـ “نصيحة” أحد مساعديه “الأمناء”! الحقيقة هي أنني لم أكن يوما من أتباع أي جهة سياسية أو أي شخص معين، ويفترض أنه لم يعد في الأمر شك بعد أن خضت الانتخابات مرتين دون التحالف مع اليسار أو اليمين. لكن المشكلة هي قديمة جديدة: الأخذ برأي المساعدين، أو الحواشي، دون التأكد من صحة ما يقولونه.
 

اتضح لي لاحقا أن ذلك المساعد “الأمين” لرئيس الوزراء، كان يطمح في تولي منصب معين كنت مرشحا له، وما إن تمكن من إبعادي عنه حتى حصل هو عليه!!! إذن فالفرية التي أطلقها ضدي كانت لأسباب شخصية “أثمرت” نتائجها بالنسبة له، ولكن مؤقتا لسوء حظه. لكنها أثمرت أيضا بالنسبة لي فقد اكتشفت من خلالها مدى عجز الكثير من المسؤولين العراقيين الكبار عن القيام بواجباتهم التي كلفوا بها من قبل الشعب ومدى اعتمادهم على “النصائح” التي يقدمها لهم مساعدوهم، وعجزهم عن مراقبة هؤلاء واكتشاف ألاعيبهم ومؤامراتهم التي ستعود على رؤسائهم قبل غيرهم بالوبال. وقد رأينا كيف أساء هؤلاء لسمعة هذا المسؤول أو ذاك وأعاقوا فوزه بهذا الموقع أو ذاك.

 المساعدون هم بشر أيضا، يصيبون ويخطئون، يحبون ويكرهون، وقد يكون لبعضهم مآرب غير مشروعة وغير قانونية أو موضوعية أو أحقاد شخصية، لذلك فإن من واجب المسئول متابعتهم شخصيا من خلال ضوابط معينة تقيدهم وكذلك من خلال الاختلاط بالآخرين والاستماع إليهم. وفي نهاية المطاف فإن المسؤول الأول هو الذي سيتضرر في الدولة الديمقراطية من جراء نشاطات مرؤوسيه وهو الذي سيتحمل المسؤولية النهائية عما يجري باسمه، رغم أن الآخرين لن يفلتوا أيضا من المحاسبة.

في بلدان العالم المتقدم يحاسب المسؤولون والوزراء من قبل الشعب على أداء أصغر مساعديهم. ولعل أقرب مثل أتذكره هو استقالة وزير الداخلية البريطاني، ديفيد بلونكيت، في العام الماضي عندما قام أحد مساعديه بالاتصال بدائرة الهجرة وطلب منها “تسهيل” قدوم إحدى العاملات في منزل الوزير من دولة أخرى من خلال الإسراع بمنحها تأشيرة دخول إلى بريطانيا!!!! وعندما اتضح الأمر للوزير قدم استقالته على الفور متحملا مسؤولية ذلك الخطأ الذي يبدو للكثيرين منا أمرا طبيعيا. أما وزير الخارجية البريطانية الأسبق اللورد كارينغتِن فقد استقال لأن مكتبه لم يتمكن من اكتشاف “نوايا” الأرجنتين بغزو جزر الفوكلاندز البريطانية  قبل وقوعه عام 1982!!! وعندما رفضت رئيسة الوزراء، مارغريت ثاتشر، استقالته لعدم اقتناعها بارتكابه أي خطأ، أصر هو على الاستقالة وقال إنه يتحمل المسؤولية كاملة عما حصل ويجب أن يدفع الثمن شخصيا بالتخلي عن منصبه.


زعماؤنا ومسؤولونا لا يعترفون بأخطائهم ولا حتى بأخطاء مساعديهم إلا إذا نتجت عن إلحاق أضرار بهم أنفسهم، ولا يختارون مساعديهم على أسس صحيحة، فليس هناك مواقع شاغرة تعلن على الملأ كي يتقدم لها أصحاب الكفاءة والخبرة من أبناء الشعب ويتنافسوا عليها، بل تُخلق المناصب والمواقع للأشخاص “وتُفصَّل على مقاساتهم”. ومن هنا فلا غرابة أن يتراجع العراق إلى الوراء لأنه ليس هناك من يعمل لصالحه، فالعمل هو لصالح الأفراد والجماعات والمناطق والطوائف. نحن رأينا أن أشخاصا معينين قد تحسنت أمورهم المالية والاجتماعية كثيرا لأنهم عملوا من أجل أنفسهم ورأينا تقدما حققه هذا الحزب أو ذاك أو هذا الزعيم أو ذاك، لكننا نرى التدهور حاصلا في معظم مناحي الحياة في العراق والسبب واضح لكل ذي عين وهو أن من يعمل لصالح العراق وبتجرد هم قلة قليلة. لا يمكن العراق أن يتقدم إلا إذا كانت هناك جهود حثيثة وكبيرة تبذل لصالحه وباتجاه حل مشاكله من قبل جميع المشاركين في إدارته من السياسيين والمهنيين. وحتى ذلك الحين: على العراق وأهله السلام.