كيف تحقَّقَ النصر على داعش إن كان “مستحيلا”

 سكاي نيوز عربية: 17 نيسان/أبريل 2023

لم يكن النصر على داعش مستحيلا، كما ادعى رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، في كتابه “النصر المستحيل”، فداعش تنظيم إرهابي لا ينتمي إلى العصر الحديث ولا يمكنه أن يحكم، مهما أوتي من قوة، ومارس من رعب، لأن الأفكار التي يؤمن بها غير قابلة للتطبيق على بني البشر المعاصرين.

التنظيمات الإرهابية المسلحة، سواءٌ تلك التي وصلت إلى السلطة، أم التي تسعى للوصول إليها، كداعش والقاعدة والنصرة وبوكو حرام، لا تمتلك مشروعا لإدارة البلدان التي تسعى لحكمها، وكل ما عندها أنها تريد أن تقسر الناس جميعا، على العيش صاغرين كما كان “السلف الصالح” يعيشون، وأن تجرَّهم، رغم أنوفهم، إلى الجنة، وهذا هو “النصر المستحيل” في القرن الحادي والعشرين.

قلت هذا الكلام في محاضرة عامة أثناء ما كان تنظيم داعش يسيطر على ثلث العراق، وبعض مناطق سوريا، مضيفا أن الشعوب أقوى من كل التنظيمات الإرهابية، وإن نجحت هذه التنظيمات في السيطرة على منطقة معينة، أو حتى دولة، فإنها لابد أن تزول، أو تتغير، لأنها لا تستطيع التعايش مع الحياة العصرية. ولهذا السبب يواجه نظاما ولاية الفقيه وطالبان، مصاعب جمة في حكم إيران وأفغانستان.

وما إن انتهيت من قولي هذا، حتى انبرى لي أحد المعممين، فهرع إلى المنصة وأمسك بالمايكروفون، دون أن يدعوه أحد للحديث، وقال “لا تستمعوا إلى هذا الرجل، فنحن لسنا أقوياء، وإنما ضعفاء ضعفاء ضعفاء”.

بدا لي أن الرجل شعر بأن الأفكار التي طرحتُها، تهدد التوجه الذي ينتمي إليه، وكان واضحا أنه ينتمي إلى إحدى الجماعات المتشدقة بالدين، التي تريد أن تقسر الناس على سلوك نهج يتعارض مع الطبيعة البشرية والحياة العصرية، أو أن خططها للسيطرة على الناس تقتضي بث الرعب والخوف من داعش، كي تتولى هي (حماية) المجتمع، بدلا من قوى الدولة النظامية، كالجيش وأجهزة الأمن والشرطة.

كنت في بغداد حينما سيطر داعش على الموصل، في العاشر من يونيو 2014، وكان مخططا أن أكون في الموصل يوم 15 يونيو لحضور نشاط ثقافي، لكن كل شيء تغير بعد انتصار داعش على قوى الدولة.

وكنت أذهب إلى شارع المتنبي أيام الجمعة من كل أسبوع، كما يفعل محبو الثقافة والمعرفة والفن في بغداد، وعادة ما يكون الشارع مزدحما، فقلما تجد مكانا في مقهى أو مكتبة أو قاعات المركز الثقافي البغدادي، وحدائق مبنى القشلة العريق الأنيق، ولا تستطيع أن تسير بسرعة لازدحام الشارع بالرواد.

                أبو بكر البغدادي: إرهابي مطلوب دوليا قاد بضعة آلاف من الإرهابيين وتمكن من احتلال الموصل بفضل الخطاب الطائفي لقادة العراق

إلا أنه، وخلافا للمعتاد، كان شبه فارغ يوم الجمعة، 13 يونيو، 2014، نتيجة الهلع الذي هيمن على العراقيين، بسبب سقوط الموصل بأيدي داعش.

كررتُ على مسامعِ كلِّ من التقيته ذلك اليوم، ألا تخافوا، فداعش مجموعة صغيرة من المسلحين وهي لا تستطيع أن تسيطر على مدينة عملاقة كبغداد، التي تضم حينها ما يقارب الثمانية ملايين نسمة، بل لن تفكر بالمجيء إلى بغداد، ولا تحلم أبدا بالسيطرة على العراق. لكن الجماعات المتشدقة بالدين، مدفوعة من دولة أخرى، شنّت حملة محمومة لتضليل وتخويف المجتمع العراقي، وسوف تتضح دوافعها غير البريئة لاحقا.

لم يكن الرعبُ الذي بثه التنظيم في نفوس الناس، السببَ الوحيد الذي أقلقهم، بل الرعبُ الذي بثته الجماعاتُ المتشدقةُ بالدين، الطامعةُ بالسلطة والمال، والمرتبطة بدولة أخرى، والتي تمتلك قنواتٍ فضائيةً وجرائدَ ومواقعَ ألكترونية، وإذاعاتٍ ومراكزَ دينيةً ومساجدَ وأبواقاً أخرى، هو السببُ الرئيسُ وراء ذلك الهلع، والهدف هو إرهاب المجتمع ودفعه للانصياع لها، باعتبارها أقل تطرفا من داعش!

وهذا ما حصل، فقد استغلت الجماعاتُ الدينية هذه الكارثة، واعتبرتها هديةَ السماء إليها، فبثت الهلعَ في نفوسِ البسطاء، كي تتسلحَ وتجندَ المسلحين ثم تهيمنَ على البلد ومواردِه وتتخلصَ من خصومِها بقوة السلاح. وعندما أصدر المرجع علي السيستاني فتوى الجهاد ضد داعش، استغلتها تلك الجماعات ووظفتها لصالحها، وأضْفَت على مسلحيها قداسة كي يكونوا فوق النقد، مهما فعلوا، باعتبارهم يطبقون فتوى المرجعية الدينية، وتمكنت في عهد حكومة العبادي من سن قانون يجيز لمسلحيها تسلُّم رواتب من الدولة.

وعندما اتضحت اللعبة بعد سنوات، وأوضحَتْ المرجعية الدينية أن الفتوى ليست للانتفاع السياسي، وأمرت المليشيات التي عملت باسمها بالالتحاق بوزارة الدفاع، غيَّرت الجماعات المسلحة خطابها، لكنها بقيت تبث الهلع في نفوس الناس وتدَّعي بأنها، ومن ورائها إيران، الوحيدة القادرة على حماية العراقيين من داعش. استفادت هذه الجماعات من ممارسة الدجل والخداع، وهي دائمة البحث عن بعبع تخيف به الناس، فتارةً تستخدم البعث، وتارة الطائفية، وأخرى الاحتلال، وأخيرا وليس آخرا، داعش.   

وينسجم كتاب العبادي مع هذا النهج السائد عند الجماعات المتشدقة بالدين والطائفة، وهو تهويلُ خطرِ داعش، من أجل خداع الناس والهيمنة عليهم، وتصوير النصر على التنظيم بأنه مستحيل، لكنه تحقق بفضل حنكة القائد العظيم، تشرشل العراق، حيدر العبادي!

 كيف يمكن أن ينسجم قادة العراق مع العالم إن كانوا يصطفون طائفيا داخل بلدهم ويمتنعون عن معاقبة من يسيء إلى مقدسات الآخرين؟

لا أخفي أنني كنت أعتقد بأن العبادي يمكن أن يكون قائدا ناجحا، مقارنة بمن سبقوه، كالجعفري والمالكي، وكنت قبل الآخرين قد طرحت اسمه في وسائل الإعلام والتواصل كبديل للمالكي، ودافعت عنه قبل ذلك، عندما تعرض للإساءة، وهو على العموم يمتلك مزايا شخصية أفضل من سَلَفَيه، إذ عاش حياة طبيعية في بريطانيا، وكان يعمل كباقي الناس، ويدفع الضرائب، ويأخذ أطفاله إلى المدارس، ويتكلم الإنجليزية، وبدا منسجما نسبيا مع الحياة المدنية والثقافة العصرية. لكن نقاط ضعفه (الكامنة)، بدأت تتضح بعد أن صار رئيسا للوزراء.

كان ضعيفا أمام وزرائه المنتمين للجماعات المسلحة المدعومة إيرانيا، لكنه كان شديدا مع الوزراء المستقلين، خصوصا في السنتين الأخيرتين لولايته، عندما اضطر، تحت الضغوط الشعبية، إلى استيزار خبراء في النفط والنقل والمياه والتعليم.

                                                                                    إبراهيم الأشيقر(الجعفري): يتخذ لقبا طائفيا ويتمرد على البروتوكول ويريد أن يمثل العراق

كان وزير خارجيته، إبراهيم الجعفري، يتصرف بفوقية فاقعة، فلم يعترف فعليا به كرئيس للوزراء، ولم يكترث حتى لرئيس الجمهورية، فؤاد معصوم. كان يتصرف بتعالٍ مُنفِّرٍ وغيرِ لائق، كشابٍ مبهور بتوليه منصبا لا يستحقه. في الزيارات الخارجية، كان الجعفري يسير على السجادة الحمراء إلى جانب رئيس الجمهورية، بدلا من السير خلفه، كما يقتضي البروتوكول.

وعندما يرافق العبادي في زيارة خارجية، لا يغادر الطائرة معه ويسير خلفه، بل ينتظر حتى يكون العبادي ووزراؤه قد غادروا الطائرة، حينها ينزل من الطائرة ويسير في موكب منفرد، بدلا من السير خلف رئيسه، باعتباره عضوا في وفد يمثل الدولة! ولم يُطْلِع رئيس الوزراء على نشاطاته، حتى أن العبادي شكا في مؤتمر صحفي، أنه يسمع عن نشاطات وزارة الخارجية من وسائل الإعلام!

لم يتحرر العبادي من عقدة الطائفية، على ما يبدو، وقد صنّف العراقيين طائفيا، وكان هذا النهج سائدا في كتابه، فصفة (عراقي) غير كافية عنده، يجب أن يضع إلى جانبها وصفا طائفيا. مثلا، تحدث في (ص70) عن جارته (السُنيّة) المتزوجة من رجلٍ (سنّي) من الحلة، الذي أُعدم بسبب هروبه من (جيش صدام)، وقد أخبرته جارته أن زوجها (لو كان من الأنبار أو صلاح الدين لبقي على قيد الحياة)! السؤال هو ما الهدف من سرد هذه القصة؟ هل تعزز الوحدة الوطنية مثلا؟ أم أنها تعطي عتادا جديدا للمتطرفين كي يُعمِّقوا الفرقة بين العراقيين؟ إن كانت المرأة قد قالت ذلك فعلا، وأشك في ذلك، فإنها على الأرجح لَمَحَت قبولا أو ترحيبا بهذا التحليل الطائفي عند الجانب الآخر، بسبب طائفيته المتأصلة.

كما يعرِّف نفسه بأنه شيعي! مثلا، يقول في الصفحة (298) إنه عندما ذهب إلى الحج عام 2019، رصده مجموعة من الشبان “وتبين أنهم عراقيون سُنَّة من صلاح الدين”! قالوا له “أنت حررتنا”، فشعر بالامتنان لهم “وتأثر بلطفهم”. ثم يضيف “أنا شيعي…. لم أكن لأحصل على أرضية مشتركة معهم لولا الحرب”… و”على الرغم من خلفياتنا المتنوعة، لكنهم آمنوا ببلدنا”!

لماذا لا يجد “تشرشل العراق” أرضيةً مشتركة مع أبناء صلاح الدين، وهم مواطنون عراقيون وعرب ومسلمون؟ رجال الدولة لا يصنفون أنفسهم طائفيا أو دينيا أو مناطقيا، بل يتمسكون بالهوية الوطنية الجامعة. والقائد الذي يصطف مع فئة واحدة من شعبه، هو قائد ضعيف، ولابد أن يقود بلده نحو الهزال والتشتت.

من الواضح أن لدى العبادي عقدة من تكريت، لمجرد أنها مسقط رأس صدام حسين، والمعروف أن أهالي تكريت من أكثر العراقيين تمسكا بالهوية الوطنية ونبذاً للطائفية، وهذه حقيقة خبرتُها بنفسي، إذ كان لي زملاء دراسة وأصدقاء من تكريت. لكن العبادي لا يرى سوى أنهم أبناء مدينة صدام، وكأن هذه المدينة التأريخية لم يعد لها وصف سوى أن أحد أبنائها صار رئيسا.

والغريب أنه يُسْقِط إحساسه هذا على العراقيين، فيقول “كانت تكريت مسقط رأس صدام ومعقلا لحزب البعث، ولا يساورني شك أن العديد من العراقيين كانوا سعداء لرؤية المدينة مدمرة”! (ص148). يتوهم العبادي بأن العراقيين يكرهون تكريت ويسعَدون لرؤيتها مدمرة! الحقيقة أن تكريت لم تكن يوما معقلا لحزب البعث، فعدد سكانها أقل من معظم مدن العراق (180 ألفا حسب تقديرات الأمم المتحدة لعام 2003)، ومعظمهم لم ينتموا لحزب البعث.

 يدّعي العبادي بأن “الكثير عَدّوا إظهار الرحمة تجاه الأهالي جريمة بحد ذاتها”، (ص137)، ولم يقدم دليلا، ولم يسمِ أحدا من هؤلاء (الكثير)، سوى القول إن “السياسيين الفاسدين يستخدمون الطائفية لمصلحتهم! لا أدري كيف توصل إلى هذا الرأي الموغل في الغرابة؟ كيف تكون الرحمة تجاه الأهالي الأبرياء جريمة؟ وهل هناك شخص سليم العقل يؤمن بهذا؟

ومن تحليلاته قوله “توقعنا من صدام أن يستخدم كل شيء بما في ذلك الأسلحة الكيمياوية لتدمير البلاد وبنيتها التحتية”! (ص61). كيف يستخدم صدام الأسلحة الكيمياوية لتدمير بلد يحكمه؟ وهو الذي تمسك بالسلطة فيه، وسعى لاستعادتها بالقوة؟ ثم كيف يتمكن حاكم بمفرده من تدمير بلد بالكامل؟

هناك تناقض في العديد من القصص التي سردها. مثلا، يقول إنه لم يفكر بهويته الطائفية “وقضيتُ سنوات شبابي غير مدرك للأهمية التي ستشغلها في حياتنا اللاحقة” (ص69)، وأنه (عانى) ليتذكر “مَن بين أصدقائه في المدرسة والجامعة مَن كانوا من الشيعة أو السنة (لأن) الطائفة لم تكن لها صلة بصداقتنا”. لكنه يلحق ذلك بالقول إن هناك تمييزا طائفيا في العراق وأن السُنّة “حصلوا على معاملة تفضيلية وأن التوترات تفاقمت بسبب تشكيل حكومة غالبية شيعية” (ص70)!

والحقيقة أن (التوترات) لم تكن احتجاجا (سنيّا) على الحكومة الشيعية، وإنما حصلت بسبب التمييز والخطاب الطائفيين، اللذين مارسهما جهلة السياسة، من الذين لم يكن لديهم مشروع وطني لبناء وإدارة دولة عصرية، بل مشروع انتقامي، تحفِّزه عُقَد وأمراضٌ نفسية خطيرة.

                                          محمد الصدر، صالح جبر، فاضل الجمالي، عبد الوهاب مرجان وناجي طالب: رؤساء وزراء شيعة لم يحتج عليهم السنة

لم يحتجّ السُنَّة على حكومة رجل الدين الشيعي محمد الصدر، ولا على حكومات صالح جبر وعبد الوهاب مرجان وفاضل الجمالي وناجي طالب، وكلهم شيعة. والسبب لأن أولئك الحكام كانوا رجال دولة، لا يميِّزون بين الناس، ولم تكن لديهم ثارات مع أحد، ولا يطمحون إلى تصحيح التأريخ وفق أمزجتهم الحادة وسردياتهم العاطفية. كذلك لم يحتج الشيعة على حكومات قادها عراقيون سُنّة للأسباب نفسها.

                    عبد الكريم قاسم: مؤسس الجمهورية ورئيس الوزراء: ينتمي إلى عائلة سنية لكن معظم أنصاره وأتباعه من الشيعة

لو لم تميِّز حكومات ما بعد 2003 بين المواطنين، ولم تنهب ثروات البلد، ولم تمارس خطابا طائفيا فاقعا، ولم تشجع البسطاء على الاصطفاف طائفيا، لما حصل أيُّ توتر أو أعمال عنف.

النظام الديمقراطي لا يقصي الآخر، ولا يسمح بممارسة الخداع والدجل والافتراء من أجل إقصاء الخصوم. ومثل هذا النظام آيلٌ للسقوط لا محالة، لأن المجتمعات الحديثة ترفض كل صنوف الظلم والاضطهاد والتمييز التي تقع على أي فئة من فئات المجتمع، والقوانين الدولية صارت متداخلة مع القوانين الوطنية، لذلك لا يمكن أيّ دولة أن تتطور إن عزلت نفسها عما يجري في العالم. 

وللحديث بقية.

 حميد الكفائي

 

 

 

 

 

 

#حميد_الكفائي

https://www.skynewsarabia.com/blog/1613716-%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8E%D9%91%D9%82%D9%8E-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%8A%D9%84%D8%A7