خليجي 25: نجاح عراقي يفتح أبوابا للأمل

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة: 17 يناير/كانون الثاني 2023

لا شك أن إقامة بطولة خليجي 25 في البصرة حدث تأريخي بالنسبة للعراق، الذي لم تُتَح له الفرصة لتنظيم أي حدث عربي أو دولي مهم منذ أكثر من أربعة عقود، بسبب الحروب والعقوبات الدولية والإرهاب والأنظمة القمعية والفاشلة التي تعاقبت على حكمه.

ومن أجل فهم الابتهاج الواسع، والفرح الغامر، الذي عم العراق بسبب قبول اللجنة المنظمة للبطولة إقامتها في البصرة، واستقبال العراقيين الحافل والاستثنائي للزائرين العرب، المشاركين في هذه البطولة والمشجعين لها، لابد من استعراض بعض الأحداث الرئيسية في العراق، التي ساهمت في خلق هذا الشعور العراقي الجياش، والحماس المنقطع النظير لاستضافة بطولة رياضية، كانت دولٌ عديدة، بما فيها العراق، قد استضافتها من قبل دون ضجة.

ابتداءً، لم يستضِف العراق أي بطولة رياضية بهذا المستوى منذ خليجي 5، التي استضافها العراق عام 1979، ولم تكن حدثا بالأهمية التي أولاها العراقيون لهذه البطولة. معظم العراقيين فرحوا بهذه المناسبة، وروجوا لها وعلَّقوا عليها آمالا عريضة، وتمنوا لو افتتحها النجم العراقي اللامع كاظم الساهر، وبالتأكيد لديهم أسبابهم الوجيهة والمفهومة لهذا الاهتمام، والتي سنبحثها تباعا.

وطوال أربعة عقود ونيف لم يشهد العراق أي حدث دولي أو عربي مهم، رياضيا كان، أم فنيا أم سياسيا، رغم محاولاته الكثيرة غير الموفقة منذ السبعينيات. كان العراق سيستضيف مؤتمر قمة الدول غير المنحازة، المقرر عقده في عام 1982، وكانت الاستعدادات جارية على قدم وساق، حتى أن العراق شيَّد قصرَ المؤتمرات العملاق في بغداد لهذا الغرض، وأرسل عشرات الطلاب لدراسة الترجمة في بريطانيا كي يساهموا في تسهيل أعمال المؤتمر، لكن اندلاع الحرب بين العراق وإيران عام 1980، واعتراض إيران على عقد المؤتمر في بغداد، قد حالا دون انعقاده، فاستضافته الهند بدلا من العراق.

في عام 1978، انعقدت القمة العربية الطارئة في بغداد، لكن تلك القمة، التي غابت عنها مصر، عُقدت لمعالجة قضية سياسية واحدة، وهي توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل، فلم تكن هناك آمال معلقة على القمة، ولم تكن الأجواء مشجعة على الاحتفال. وطوال سني الثمانينات انشغل العراق بالحرب مع إيران وكيفية صد الهجمات الإيرانية المتكررة، التي كانت تستهدف إسقاطَ النظام السياسي، وإقامةَ نظام سياسي آخر ينسجم مع النظام الإيراني، الأمر الذي دفع معظم دول العالم للوقوف مع العراق حتى النهاية.

لقد كبَّلت الحرب العراقية الإيرانية العراقيين بقيود ثقيلة، وحرمتهم من الاستقرار، وتحملوا خلالها مآس وكوارث مريرة، من فقد الأحبة في حرب عبثية لا طائل من ورائها ولا منتصر فيها، إلى تخريب البنى الأساسية للبلد، من مبانٍ وطرقٍ وجسورٍ وشوارع، إلى تلويث البيئة العراقية بكل أنواع الملوثات، إلى إهمال الإعمار والتطوير بسبب تكريس كل الموارد، المادية والبشرية، للمجهود الحربي.

كما حُرِم العراقيون من السياحة العربية والأجنبية بسبب الحرب وعدم الاستقرار، فلم يختلطوا بإخوانهم العرب، من مصر وسوريا والأردن ودول الخليج العربي، الذين كانوا يترددون على العراق سابقا، إما للتفسح أو لأغراض ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو تعليمية، أو لزيارة الأقارب، فمعظم العراقيين ينتمون لقبائل عربية منتشرة في الدول المجاورة، خصوصا المملكة العربية السعودية والكويت والأمارات وقطر والبحرين وسورية والأردن.

إضافة إلى ذلك، حُرِم العراقيون من السفر بسبب حظر الحكومة له، ابتداءً من عام 1982 حتى 1988، بسبب نقص موارد البلد المالية، التي كُرِّسَت جميعُها لمواصلة الحرب مع إيران، إذ أصرت القيادة الإيرانية على مواصلتها، على الرغم من المساعي الدولية والعربية والإسلامية الحثيثة لوقفها. فلم يتمكن معظم العراقيين من السفر، باستثناء الذين أرسلتهم الحكومة إلى الخارج في مهام رسمية أو للدراسة.  

وعندما وضعت الحرب أوزارها عام 1988، وتنفس العراقيون الصعداء، وسمحت الحكومة بالسفر، كان العراق يئن تحت وطأة الديون والخراب والمآسي التي خلَّفَتها الحرب. لكن الابتهاج بنهاية الحرب بتأريخ 8/8/88 كان استثنائيا، إذ كان شعبيا ورسميا، وكان الناس مفعمين بالأمل، بأن يكون المستقبل أفضل وأجمل، وأن يضعوا وراءهم سني حرب الثماني سنوات، بمصائبها ومآسيها وخسائرها البشرية والمادية.

وفي ربيع عام 1990، استعاد العراق نشاطه العربي، واستضاف مؤتمر القمة العربية العاشر، الذي كُرِّس لتعزيز التضامن العربي ومواجهة التحديات الأمنية التي يواجهها العرب، وكان المؤتمر سيؤسس لدور فاعل للعراق، وعلاقات قوية مع العالم العربي والعالم، لولا أنه غزا الكويت بعد انعقاد تلك القمة بشهرين فقط!

لقد جرت الرياح بما لم تشتهِ سفن الشعب العراقي. فلم تدُم فترة السلم طويلا، بل عامين فقط، من 8 أوغسطس 1988 إلى 2 أوغسطس 1990، ليبدأ مسلسل الحروب المدمرة، والعقوبات الدولية الخانقة، والانتفاضات الشعبية العارمة، وأعمال القمع الوحشية التي طالت الجميع، من قادة الجيش والشرطة إلى قادة حزب البعث الحاكم، إلى المواطنين العاديين، بل وصلت إلى العائلة الحاكمة نفسها.

قاسى العراقيون في تلك الفترة كل صنوف الضيم وشظف العيش والقمع والكبت والحرمان، ولم يستفيدوا حتى من مواردهم الطبيعية، فاضطر كثيرون منهم إلى الهجرة، ومن بقي في الداخل، صمد في وجه أعتى نظام قمعي في تأريخ العراق، وأوسع عقوبات دولية تطال بلد من البلدان. فكل المواد التي يمكن استخدامها عسكريا، كانت محظورة على العراقيين، بما فيها أقلام الرصاص التي يستخدمها التلاميذ في المدارس. وقد استمر هذا الوضع ثلاث عشرة سنة، تكبد فيها العراقيون خسائر بشرية جسيمة، خصوصا بين الأطفال.

وفي عام 2003، غزت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى العراق لإسقاط النظام الحاكم، أثناء فورة الغضب التي أصابت العالم الغربي، والولايات المتحدة تحديدا، إثر الأعمال الإرهابية التي طالت مركز التجارة العالمي في نيويورك، وتسببت في مقتل أكثر من 3 آلاف مدني. أُسْقِط النظام بسهولة خلال ثلاثة أسابيع، فلم يكن يتمتع بتأييد شعبي أو إقليمي أو دولي، كما أنه رفض كل المبادرات الدولية لحل الأزمة العراقية، بما فيها مبادرة رئيس دولة الأمارات العربية المتحدة، المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

وكان يُفتَرَض أن تبدأ مرحلةٌ جديدة بعد سقوط النظام، من الانفتاح والإعمار والتطوير والرخاء ونيل الحقوق واحترام الحريات العامة والخاصة، ولكن هيهات! فالجماعات الإرهابية والظلامية بدأت تتقاطر على العراق، متخذةً من الاحتلال الأمريكي ذريعةً لها، ومتمتعةً بدعم دول معروفة، بهدف إضعاف الدولة العراقية، وتفتيت هوية شعبها القومية الراسخة منذ ألفي عام. ولم تكن في العراق أحزاب سياسية منظمة تمتلك مشروعا وطنيا عصريا، كي يتمكن من الصمود في وجه تلك الأخطار، بل كانت هناك جماعات متناحرة، أهدافها لا تتعدى خدمة قادتها وتنفيذ أجنداتٍ خارجية.

في عام 2012، استضاف العراق مؤتمر القمة العربية الثالث والعشرين، ولكن، كان مؤتمر قمة في الاسم فقط، إذ لم يحضره معظم الزعماء العرب، بل إن بعض الدول أرسلت سفراء لتمثيلها فيه، بسبب عدم انسجام الدول العربية مع حكومة نوري المالكي، المتهمة بالطائفية والفساد والتبعية.

وخلال السنوات العشرين المنصرمة، ازدادت معاناة العراقيين مع اشتداد عمليات الفتك الإرهابي بهم، التي تزامنت مع أعمال النهب الذي قامت به جماعات متشدقة بالدين، تدعمها مليشيات مسلحة. وبالرغم من الأموال الطائلة التي تسلمها العراق، من النفط والمساعدات الدولية والسياحة الدينية وباقي النشاطات، فإن أكثر من ثلث السكان بقوا تحت خط الفقر حسب الإحصاءات الرسمية العراقية، بل هناك تقديرات لمؤسسات دولية تؤكد أن نسبة الفقر تجاوزت 52%، كتلك التي أوردتها مؤسسة Macrotrends. بينما تهالكت البنى الأساسية للدولة وتلكأت مشاريع الإعمار والتطوير، بل إن العديد من المشاريع كانت وهمية، هدفها الأساس هو سرقة المال العام.

 في ضوء الصورة القاتمة للوضع العراقي، من فشل سياسي وفقر مادي وانقسام مجتمعي وتهديد للهوية الوطنية والقومية، وتبعية القوى السياسية الحاكمة لإيران، تأتي بطولة خليجي 25، التي تستضيفها البصرة لتوحد العراقيين وتبعث فيهم الأمل بأن البلدان العربية، ودول الخليج العربي تحديدا، مازالت تقف مع العراق، بغض النظر عن طبيعة حكومته وتوجهاتها السياسية.

ينظر العراقيون إلى بطولة خليجي 25 بأنها نقطة انطلاق لعودة العراق إلى محيطه العربي، ويرونها تعزيزا لهويتهم العربية التي هددتها الجماعات المتشدقة بالدين، المرتبطة بإيران، والتي حاولت خلال العشرين سنة الماضية أن تدق إسفينا طائفيا وثقافيا بين العراقيين وباقي العرب. إنها المرة الأولى، منذ 43 عاما، التي يستقبل فيها العراقيون مواطني دول الخليج العربي في مناسبة سعيدة: مباريات رياضية بين المنتخبات الثمانية.

ويشعر العراقيون أيضا بالفخر أن لديهم الآن صرحا رياضيا مؤهلا لاستقبال مباريات بهذا الحجم، وهو مدينة البصرة الرياضية، التي تضاهي الصروح الرياضية في الدول المتقدمة، والتي يتسع الملعب الرئيسي فيها لخمسة وستين ألف متفرج.     

كما يأمل العراقيون أن يكون الانفتاح الخليجي على العراق نافذة أمل لهم بانتعاش السياحة والاستثمارات الخليجية التي يمكن أن تُنشِّط الاقتصاد العراقي، وتوفر الوظائف وتعزز دور القطاع الخاص، الذي تراجع كثيرا بسبب إهمال الحكومة له، واعتماد معظم العراقيين على وظائف الدولة، التي تمولها إيرادات النفط.

وعلى الرغم من أن طبيعة الشعب العراقي، التي تعتز بقيم الكرم والضيافة، لا تسمح بالاستفادة من السياحة، فمعظم العراقيين يعتبرون أخذ المال من الضيف عيبا، فإن هذه العادات التي بقيت تتحدى الزمن، قد تتغير في المستقبل عندما ينشأ قطاع سياحي عصري متكامل. والطريف أن أحد الضيوف العرب، في حديث مع رئيس اتحاد كرة القدم، عدنان درجال، قد طالب العراقيين بالتخلي عن الكرم المفرِط، قائلا إن الوفود العربية لم تنفق فلسا واحدا خلال وجودها في العراق حتى الآن.

أحد أسباب صمود هذه العادات، هو بقاء العراق منعزلا عن العالم الخارجي منذ قرن من الزمن، فالسياحة لم تنشط في العراق منذ تأسيس الدولة، حتى أن وزارة السياحة التي أنشئت عام 2005، ألغيت بجرة قلم بعد عشر سنوات، بهدف “توفير النفقات”! صحيح أن قطاع السياحة غير مثمر حاليا، لكن السبب هو إهمال الحكومة له، وكان يمكن أن يستقطب العراق السياح من مختلف البلدان والثقافات والأديان، بسبب تنوعه الثقافي والديني وثرائه المفرط في هذا المجال، واحتوائه على آثار الحضارات البشرية الأولى، كسومر وبابل وآشور وأكد.

السياحة الدينية مزدهرة في العراق، لكنها لا تشكل موردا اقتصاديا يذكر، لأن العراقيين يقدمون الطعام ويوفرون السكن مجانا للزائرين، وما لم يتخلوا عن هذه العادة فإن السياحة الدينية ستبقى عبئا اقتصاديا وأمنيا على البلد، بدلا من أن تكون ميزةً وموردا اقتصاديا نافعا.

أهم مكسب يشعر العراقيون أنه تحقق لهم في استضافة خليجي 25 هو تعزيز الهوية العربية لغالبية الشعب العراقي، عبر التقارب مع دول الخليج العربي، فالعراق في النهاية دولة خليجية، والبصرة تحديدا تقع على رأس الخليج، وهناك روابط قومية وثقافية بين سكان العراق ومعظم سكان دول الخليج، خصوصا الكويت والمملكة العربية السعودية.

التقارب مع الدول العربية مهم معنويا بالنسبة للعراقيين، خصوصا بعد قطيعة دامت نصف قرن تقريبا، وهم يعتبرونه سلاحا في وجه الأخطار القادمة من إيران وأتباعها الأيديولوجيين، التي تهدد هويتهم العراقية والعربية وتضعف بنية الدولة.

منذ عقود والأخبار السلبية، الصحيح منها والمختلق، تهيمن على المشهد العراقي، من الإرهاب والفساد والتبعية، إلى الخطف والقتل والابتزاز والنهب المنظم للمال العام. وفجأة، يتوفر حدثٌ إيجابي سعيد، يتفق عليه العراقيون، عربا وكردا وتركمانا وكلدانا ومندائيين وآشوريين وأيزيديين، شماليين وجنوبيين، شرقيين وغربيين. حدثٌ يبشر بخير، ويصنع أملا بأن المستقبل ليس قاتما، بل يمكن أن يكون زاهرا، إن توفرت الإرادة، وتمسك العراقيون بالثوابت الوطنية.

خليجي 25 حسَّن صورة العراق البائسة القاتمة عند كثيرين. فلأول مرة منذ عقود، يزور آلاف العرب مدينة عراقية لحضور مناسبة غير دينية. مثل هذا التجمع يعطي انطباعا بأن العراق صار بلدا طبيعيا وآمنا، للعراقيين والأجانب، وأن الدولة قوية وقادرة على حفظ الأمن والنظام، وهذا بالتأكيد مكسب كبير حققه العراق باستضافته هذه البطولة. إنه حقا نجاح مهم خلال أربعين عاما من الحروب والفشل والتراجع وعدم الاستقرار. فهل يبقى هذا النجاح يتيما، أم ستتبعه نجاحات أخرى؟ لا شك أن العراقيين قادرون على تحقيق نجاحات أكبر وأعظم، تخدم بلدهم وبلدان المنطقة، لكنهم يحتاجون إلى الدعم العربي والدولي كي تتعزز ثقتهم بخطواتهم المستقبلية، وكي يرتدع المتربصون، ويدركوا أن هناك حدودا عليهم ألا يعبروها.

حميد الكفائي

https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/7937